التخطي إلى المحتوى

على شاطئ البحر، ينصب علي مهنا شاشة عرض بيضاء اللون وبجانبها يضع سماعات متوسطة الحجم، ثم ينتقل إلى طاولة التحكم، ويبدأ بربط أسلاك جهاز العرض “بروجيكتور”، ووحدة خلط الأصوات “الميكسر” في جهاز حاسوبه المحمول.

وبعدما يتأكد أن جميع تجهيزاته لعرض أفلام قصيرة لرواد شاطئ بحر غزة على ما يرام، يوزع مهنا كراسي مخصصة صنعها من إطارات المركبات التالفة، وأعاد تدويرها بطريقة متقنة تتيح لجميع المشاهدين رؤية شاشة العرض.

إمكانات بسيطة

مع غروب الشمس، يفتتح مهنا عرض “سينما البحر” وما أن يشغل شارة الفيلم على لوحة العرض، تجذب الموسيقى المصطافين على البحر، ويجتمعون على الكراسي لمشاهدة مقاطع مرئية، في جو أشبه ما يكون بسينما لكنها مفتوحة في الهواء الطلق.

يقول مهنا “يمكننا أن نبدع ونوجد دار عرض ولو على شاطئ البحر، نحاول بأبسط الإمكانات محاكاة جو سينمائي نتمكن خلاله من عرض الأفلام للناس، من حق سكان غزة مشاهدة مقاطع مصورة، حتى في غياب سينما مثالية حقيقية”.

في الواقع، يفتقر قطاع غزة للسينما، ولا يوجد به دور عرض على رغم أن هناك خمسة مباني سينما ما زالت موجودة وتحافظ على هيكليتها المعمارية، كانت تبث أفلاماً ومسرحيات، لكن جميعها مغلقة منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

في هذه الظروف يحاول مهنا خلق جو أشبه بالسينما، وعلى رغم أن تجهيزاته لا تشبه أي شيء في دور العرض سوى لوحة العرض البيضاء، إلا أنه يسعى لنشر ثقافة مشاهدة الأفلام بطريقة جماعية بين سكان غزة، بدلاً من رؤيتها فقط على الهواتف المحمولة.

حدث نادر

يضيف الشاب “سينما البحر تقوم في الأساس على عرض أفلام سينمائية على شاطئ البحر بشكل مجاني، هدفها خلق جو اجتماعي بين سكان غزة، فمع التطور التكنولوجي بات الفرد يشاهد لوحده الأفلام من دون مشاركة الناس، لذلك أحاول إعادة إحياء دور العرض، كل ما أملكه هو الفن لإيصال رسالة للجمهور لأن لغة السينما مشتركة بين الجميع من دون تمييز”.

اختار مهنا بحر غزة عن عمد، فهو أكثر المناطق ازدحاماً، وفي هذا المكان لا يحتاج إلى دعوة سكان القطاع لحضور أفلامه التي يعرضها، إذ بمجرد بدء الفيديو يتوافد محبو المشاهدة.

يتجمع المشاهدون وتتسمر عيونهم على شاشة العرض، ومع التأثيرات الصوتية ينسجمون بحركة أبطال الفيلم الذي يعرض، ويتابعون بانبهار فيلماً سينمائياً، “فهذا الحدث نادر في غزة المحرومة من دور العرض منذ فترة بعيدة”، بحسب المتحدث ذاته.

ووفق مهنا، فإن مبادرته الثقافية تحمل بعداً نفسياً أيضاً، إذ يحاول من خلالها توفير مساحة للسكان من أجل الاستمتاع بالأفلام بهدف تخفيف ضغوط الحياة عنهم، مؤكداً أن أغلب رواد البحر يزورونه لتغيير مزاجهم بعد نهار طويل ممتلئ بالمصاعب بسبب ظروف غزة.

لا تعرض أفلام عربية ولا مسرحيات

لكن “سينما البحر” لا تعرض مسرحيات مصرية ولا أفلاماً لبنانية، بل تبث سينمائيات فلسطينية وطنية أغلبها لمخرجين فلسطينيين حصل بعضهم على جوائز عالمية أو إقليمية، إضافة إلى مقاطع الكرتون المخصصة للأطفال، يشير مهنا إلى أنه يراعي في الاختيار عدم وجود تعارض مع العادات والتقاليد والدين وأن يتقبلها الجميع، فعرض مسرحية ما على الشاطئ قد تثير ضده المجتمع.

وعلى رغم أن الأفلام المعروضة في “سينما البحر” تتناول قضايا فلسطينية، لكنها لا تتحدث عن غزة، بل تركز على مواضيع الضفة الغربية والقدس الشرقية واللاجئين، يؤكد مهنا أن هذه المرئيات تمرر قيماً وطنية وإنسانية، وأنها أتاحت لسكان القطاع الاطلاع على مناحي حياة فلسطيني آخر ممن لا يستطيعون لقاءهم بسبب القيود على الحركة والتنقل.

ومن وجهة نظر مهنا، من الضروري استغلال السينما والأفلام في نقل حقيقة ما يحصل على الأراضي الفلسطينية، لافتاً إلى أنه يمكن النضال عبر دور العرض ليصل صوت الفلسطينيين إلى العالم، بأن أشخاصاً على هذه الأرض يبحثون عن الحرية والإبداع ومكانهم ليس في ساحات القتال ولا الأسر.

لم يكن هذا حال القطاع في أربعينيات القرن الماضي، إذ وقتها بدأت السينما الظهور ونشطت بشكل كبير وواكبت النشاط الثقافي والفني آنذاك، وجرى تشييد عشر دور لهذا الغرض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رثاء للسينما

لكن مع نهاية الثمانينيات تراجعت السينما، ومنذ 36 عاماً لا يوجد في غزة أي نشاط لها، يقول عاطف عسقول مدير دائرة الفنون والثقافة في الهيئة العامة للشباب والثقافة (مؤسسة حكومية)، إن حضور السينما في القطاع كان ملفتاً قبل احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية، وربما يعود ذلك لوقوعها على تخوم مصر ولبنان.

ويضيف “لكن مع تدهور الأحداث الأمنية في الانتفاضة الأولى تراجع نشاط السينما، إذ كان هناك منع للتجول في المساء ما عرقل حضور المشاهدين، إضافة إلى أن الحالة الاجتماعية والنفسية العامة في غزة حينها لم تسمح في فتح دور السينما”.

ورداً على سؤال عدم نشاط السينما في الفترة الحالية، يوضح عسقول أن دور العرض ملك خاص، وليست للحكومة، وأنهم لم يستلموا أي مبادرة لافتتاح سينما، مؤكداً أن الجهات المسؤولة لا تمانع ذلك كما يشاع، لكن مع وجود ضوابط معينة لأن مجتمع غزة محافظ ويتبع عادات وتقاليد معروفة.

وتوقع أن سبب عدم فتح سينما في غزة يعود لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في القطاع، وقال “صاحب رأس المال عادة ما يدرس المشروع من مختلف النواحي، إذ لا يوجد أحد يخاطر بنقوده من أجل فتح دور عرض قد لا تحظى بإقبال كبير، الناس في غزة تبحث عن قوت يومها وبالكاد تجده”.

وحول “سينما البحر”، يشير عسقول إلى أنها مبادرة جميلة، ومن خلالها يمكن لسكان غزة مشاهدة أفلام سينمائية، إضافة إلى أنها محاولة للنهوض بالواقع الثقافي في هذا المجال.

Scan the code