التخطي إلى المحتوى

في فيلم مدهش عن الأزمة المالية العالمية وانهيار سوق السندات والرهون العقارية في الولايات المتحدة، يصف المشهد الأحداث قبل الانهيار بعدة أيام عندما قام فريق من المستثمرين بالمراهنة على انهيار السندات المصنفة تصنيفا ائتمانيا عاليا، ولم يكن أحد ليقامر هذه المقامرة إلا مجنون فتلك سندات لبنوك قلما تخطئ، ومع ذلك انطلق أفراد الفريق بصيحات الفرح لنجاح الصفقة على أمل الانهيار المنتظر، لكن أحدهم توقف وقال في عبارة رائعة “أنتم راهنتم على انهيار الاقتصاد الأمريكي كله لو ثبتت صحة تنبؤاتكم، فلم أنتم سعداء؟”، نعم من يراهن على الانهيار العقاري يراهن على انهيار الاقتصاد، وشخصيا لم أكن يوما مع اتجاهات التمويل العقاري، لم أشجع دخول البنوك هذا القطاع، خاصة أن تجربتها في تمويل سوق الأسهم لم تكن ناجحة، وطالبت صراحة بعدم دعم العقار والسوق العقارية، وما زلت أرى أن الدعم السكني كان يجب أن يمضي بالطريقة القديمة وتتولى الأمانات تطوير الأراضي وتسترد تكلفتها من خلال الرسوم، رسوم يتم تصميمها خصيصا لتعويض الدولة عن تكلفة التطوير العقاري، ويتم منح العقارات واسترداد قيمتها دون وسيط بين الدولة والمواطن، وفي ذلك كتبت ما يكفي، لكن اتجهت وزارة الإسكان والصندوق العقاري والبنوك نحو مسار آخر أملا في تحقيق إنجاز سريع وملحوظ، فلا مجال الآن للعودة والحديث عما كان يجب، بل الحديث اليوم عن المحافظة على الاستقرار العام للأسعار، خاصة في ظل ارتفاع سعر الفائدة المستمر، الذي يبدو أنه سيحل ضيفا ثقيلا جدا.
مع الارتفاع السريع جدا للأسعار في السوق العقارية التي انتهت موجتها الحالية بارتفاع سعر الفائدة، انطلقت التحليلات الكثيرة عن الانهيار المرتقب للعقار، ولا أعرف إلى ماذا يتم الاستناد في ذلك، وهل مجرد ارتفاع سعر الفائدة سيؤدي إلى الانهيار، تجب ملاحظة أن كلمة انهيار في الاقتصاد كلمة خطيرة، والعقار هو أحد أقطاب الإنتاج، فلا أحد يرغب في هذا الانهيار، ولا حتى أولئك الذين لم يتمكنوا من تملك السكن، لن يكون هناك سعيد بالانهيار العقاري إن حدث – لا قدر الله – وقبل أن أشرح لماذا، فإنني أعيد ما قلته يوما، لن ينهار العقار كما تنهار الأسهم، ولا يوجد مؤشر عقاري في العالم قادر على تقديم صورة صحيحة عن قرارات المستثمرين والبائعين، الخروج من السوق العقارية ليس بضغط أزرار جهاز اللاب توب أو الهاتف الجوال، قرار الخروج من العقار معقد والعوامل متعددة، لذلك لا معنى لكل هذا الترويج للانهيار.
لكن ماذا لو انهار العقار فعلا؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال المرعب، أضع هذا السؤال، كيف ينهار العقار؟ للإجابة أقول إن العقار ينهار إذا قرر أشخاص عدة وعددهم كبير وفي وقت واحد بيع عقاراتهم ومع ذلك لا يجدون من يشتري منهم عند أي سعر، فلا أحد يريد العقار، والكل مرعوب منه، تماما مثلما حدث في سوق الأسهم. لكن هل من المتصور أن يحدث هذا في العقار؟ هل من المتصور عقلا أن نهرب جميعا من شراء العقار؟ الحقيقة هي نعم يمكن أن يحدث هذا إذا – وإذا فقط – لم يعد مع الناس نقد ولا سيولة، ولا حتى الذهب، ومعنى ذلك أن (كما قلت أعلاه) العقار ينهار إذا انهار الاقتصاد ككل. عندها فقط يمكن لأحدهم أن يعرض العقار ولا يجد من يشتريه. هذه الحالة الافتراضية لا تحدث في الواقع، لذلك فكلمة انهيار لا تتناسب مع العقار. البعض يستخدم كلمة انهيار يقصد بها تراجعا قويا وحادا في الأسعار، لكن هذا لا يحدث أيضا في الواقع، ذلك أن العقار ليست له سوق فورية، بل سوق تفاوضية، بمعنى أن يقوم أحدهم بعرض العقار عند سعر معين ثم ينتظر ردة فعل السوق، قبل أن يقوم بتغيير السعر، وهذا لا ينطبق على من يريد السيولة العاجلة لأنه إذا أراد ذلك فهو قادر على رهن العقار بدلا من بيعه.
العقار تعبير عن الثروة وهو مخزن جيد لها، لذلك عندما تتراجع الأسعار مع وفرة النقد فإن الأسعار تصل إلى مستوى يحفز أصحاب الثروات على الشراء، وهذا يعيد الأسعار إلى مستواها المعتاد، لذلك لا ينهار العقار، عندما لا يجد أحدهم من يشتري منه عقاره، فإنه يفضل استثماره، فالعقار يعد من أنواع الاستثمار الجيدة، وعندما ترتفع أسعار الفائدة يرتفع العائد على العقار غالبا، ذلك أن ارتفاع أسعار الفائدة يرفع الأسعار عموما، ولذلك يتجه معظم أصحاب العقارات إلى رفع الإيجارات لتعويض الفرق، وبالتالي ترتفع العوائد في العقارات، وهنا يتجه معظم الملاك إلى تأجير عقارتهم بدلا من بيعها لأن العائد هنا أفضل، بذلك لا ينخفض العقار.
لكن هناك منطقا آخر يقول إنه إذا ارتفعت الفائدة توقف الناس عن طلب تمويل عقاري وبذلك تنهار الأسعار في السوق العقارية، لكن هناك فرق بين تراجع القروض العقارية كما هو متوقع مع عدم قدرة الناس على طلب التمويل، وبذلك قد يتعرض هيكل التمويل العقاري لبعض الصعوبات، لكن هذا ليست له علاقة مباشرة بالسوق العقارية، بل إن السوق العقارية تأخذ منحنى آخر ومختلفا. وبالعودة إلى الأزمة المالية العالمية فإن التي انهارت فعلا هي السوق الائتمانية وليس العقار فلقد حدث تلاعب خطير في السوق العقارية من خلال بيع الرهون (الائتمان)، والانهيار حدث في سوق الائتمان وليس العقار، والرعب الذي أصاب العالم كان في انهيار البنوك وليست السوق العقارية الأمريكية، فقد كانت هناك مشكلات هيكلية.

Scan the code