التخطي إلى المحتوى

أعلنت هيئة الضرائب البريطانية خططا ستنشر بمقتضاها تقديراتها لمقدار التهرب الضريبي من قبل المقيمين في المملكة المتحدة، الذين يحتفظون بأموالهم في الخارج.

يأتي هذا القرار بعد معلومات أولية كشفت أن المقيمين في المملكة المتحدة لديهم 850 مليار جنيه استرليني في حسابات مالية في الخارج منها 570 مليار جنيه استرليني في ملاذات ضريبية آمنة، وفقا لتقديرات عام 2019.

تلك التطورات أعادت الحديث عن قضية الملاذات الآمنة إلى واجهة الأحداث في المملكة المتحدة، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في بريطانيا والانكماش الاقتصادي الذي تعانيه حاليا، وبدأت المعارضة البريطانية في حث ريشي سوناك رئيس الوزراء على التحرك فورا للقضاء على الشركات التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها وتخبئ أرباحها في الملاذات الضريبية في الخارج، في خطوة تدعي المعارضة أنها يمكن أن تضيف سبعة مليارات جنيه استرليني سنويا إلى الخزانة البريطانية.

لكن قضية الملاذات الآمنة لا تبدو بأي شكل من الأشكال تحديا تواجهه السلطات البريطانية فحسب، على الضفة الأخرى من الأطلسي وفي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، وبعد تحقيق استمر لمدة عام من قبل السلطات الأمريكية، بشأن الملاذات الآمنة “المسيئة”، قررت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي فحص كيفية عمل المحامين والمحاسبين والمصرفيين معا لإخفاء الأموال المودعة في الملاذات الآمنة من قبل أثرياء وشركات مقرها الرئيس في الولايات المتحدة بعيدا عن أعين السلطات الضريبية.

في واقع الأمر بذل العالم على مدار عقود جهودا حثيثة لتعزيز السياسات التي تهدف إلى القضاء على التهرب الضريبي عبر استخدام الملاذات الآمنة، مع هذا لا يبدو أن ما اتخذ من إجراءات وتدابير قد نجح في القضاء على تلك الظاهرة، بل والبعض يشكك في أن الإجراءات المتخذة قد أفلحت حتى في الحد منها، ويصبح السؤال: لماذا هذا الإخفاق؟

يختصر البروفيسور وليم استون أستاذ النظم المصرفية السابق في جامعة أكسفورد الإجابة في كلمات بسيطة، “الإجراءات غير كافية”، ولا توجد رغبة حقيقية في النظام العالمي للقضاء على الملاذات الضريبية، هناك مصالح لعديد من الشركات العالمية والأثرياء الدوليين في الإبقاء على تلك الملاذات، فمعدلات الضريبة فيها منخفضة والسرية المالية عالية جدا، واللوائح والقوانين تسهل إخفاء الثروات، أضف إلى ذلك أنه من الصعب جدا تتبع ما يحدث للأموال في اللحظة التي تغادر فيها اقتصادك وتذهب إلى ملاذ آمن”.

لكن قبل المضي قدما في بحث تلك القضية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي وتحديدا الدول والاقتصادات الناشئة، فإن السؤال المثير لمعرفة إجابته يتعلق بمقدار الأموال المخبأة في الملاذات الآمنة؟ ربما تكون الإجابة المثيرة حقا أنه لا يوجد أحد لديه تقدير حقيقي وواقعي ومؤكد حول حجم تلك الأموال، فالسرية المصرفية تحول دون ذلك، لكن “شبكة العدالة الضريبية” التي أطلقت رسميا في البرلمان البريطاني في مارس 2003 تتسم بكثير من التقدير والثقة الدوليين إضافة إلى امتلاكها خبرة طويلة فيما يتعلق بالبحث والتقصي فيما يتعلق بقضايا التهرب الضريبي ومكافحة غسل الأموال والملاذات الآمنة.

ووفقا لأحدث تقديراتها فإن ما يراوح بين 21 و32 تريليون دولار من الأصول المالية موجود في الملاذات الآمنة، وعلى الرغم من إقرار “شبكة التهرب الضريبي” بأنه يصعب الحصول على أرقام دقيقة بهذا الشأن، ما يجعل التقديرات الدولية متباينة للغاية، فإن تقديراتها تشير إلى أن الضرائب التي تضيع على المجتمع الدولي من الأموال المخبأة في الملاذات الآمنة تقدر بـ427 مليار دولار كل عام.

وتقديرات البنك الدولي بهذا الشأن تؤكد أنه لا توجد معرفة دقيقة بحجم الثروة الشخصية في الملاذات الآمنة، إذ قدرت بين 8.7 تريليون دولار و36 تريليون دولار.

ستوت كولين الخبير الضريبي يحمل جزءا كبيرا من الفشل الدولي في معرفة حجم الثروات المودعة في الخارج إلى أن الأشخاص لا يحتفظون بحسابات خارجية لثرواتهم بأسمائهم الخاصة لكن عبر شركات وهمية.

وقال لـ”الاقتصادية”، “إن نظم تأسيس الشركات خاصة في الدول الأوروبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة النظر فيها ليس بهدف عرقلة عملية تأسيس شركات جديدة، لكن لفرض شروط تضمن أن تلك الشركات حقيقية، فأغلب من يودعون أموالهم في الملاذات الآمنة يقمون بذلك عبر شركات وهمية لا أساس ماديا لها ولا تشارك في العملية الإنتاجية”.

وأضاف أن “هذا يوجد مشكلة تتجاوز الملاذات الآمنة، وهي أنه يعطي حسابات خاطئة عن مقدار الثروة الحقيقي في المجتمع، ويجعلنا نبالغ في حجم القدرة الاقتصادية للدولة، وفي الوقت ذاته فإن الإفراط في السرية المصرفية في الملاذات الآمنة وعدم قدرتنا على معرفة الحجم الحقيقي للثروات المودعة في تلك الملاذات لا يجعلانا قادرين على الحكم، والأخطر التنبؤ بدورها في مجال التمويل المالي العالمي”.

باختصار يرى خصوم الملاذات الآمنة أنها شبكة مصممة لإخفاء المخالفات المالية والتهرب من الضرائب، ومن ثم ربما يكونون سعداء مع تقلصها أو اختفائها، لكن للأنصار وجهة نظر أخرى.

في المقابل، يرى جي.دي. مورجان الخبير المحاسبي الدولي، أن هناك هجمة مبالغا فيها بشأن خطورة الملاذات الآمنة.

وقال لـ”الاقتصادية”، “إن الملاذات الآمنة قانونية وتعمل ضمن إطار القانون، ومن المشروع تماما أن تقوم بعض الدول بخفض الضرائب لجذب رؤوس الأموال، وهذا ما تفعله تلك الملاذات، كما أنها تعمل على حماية الأصول من مخاطر عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول، أما عملية إخفاء الأثرياء أسماءهم عند فتح حسابات بنكية فإن هذا يضمن حمايتهم من العمليات الإجرامية والابتزاز أو الاختطاف لطلب الفدية”.

ويستدرك قائلا “الهجمة الدولية الحالية على الملاذات الآمنة القانونية وذات السمعة المحترمة والمعترف بها عالميا، تعني تقليص قدرتها لمصلحة الملاذات الآمنة سيئة السمعة وستجعلها أكثر شعبية”.

ويصنف مؤشر الملاذات الضريبية للشركات التابع لشبكة العدالة الضريبية جزر فيرجن البريطانية وبرمودا وجزر كايمان على أنها تحتل المراتب الثلاث الأولى في المؤشر، بينما يصنف مؤشر السرية المالية التابع أيضا لشبكة العدالة الضريبية سويسرا والولايات المتحدة وجزر كايمان على أنها أعلى ثلاث مناطق لإخفاء الثروات الشخصية.

بدورها، ترى فيكتوريا اربت الناشطة في مجال مكافحة التهرب الضريبي والداعية إلى إلغاء الملاذات الآمنة، أن كل تلك الادعاءات المدافعة عن الملاذات الآمنة لا أساس لها من الصحة وأن الجهود الدولية المبذولة تهدف إلى تشذيب غابة الملاذات الآمنة وليس اقتلاعها من جذورها.

وذكرت لـ”الاقتصادية” أن “جزر فيرجن البريطانية واحدة من أكبر وأههم الملاذات الآمنة في العالم، وأيضا واحدة من آخر بقايا الإمبراطورية البريطانية، وتحكم بموجب ترتيب معقد لتقاسم السلطة بين حاكم ترسله وزارة الخارجية البريطانية ورئيس وزراء منتخب محليا، وعلى الرغم من أن اسمها جزر فيرجن البريطانية، فإن الأدلة على أنها تابعة للحكم البريطاني ضعيفة، فمظاهر الحياة السائدة في الجزيرة أمريكية والعملة المتداولة هي الدولار، باختصار الدول الكبرى والولايات المتحدة لديها مصلحة في الإبقاء على الغابة وليس التخلص منها، لكن توحشها وهمجيتها هما ما يجب التصدي لهما”.

وأضافت أن “عديدا من اللاعبين الأقوياء الذين يمكنهم وضع حد لتلك الملاذات الآمنة يستفيدون منها، فقد كشف تسريب تاريخي للسجلات المصرفية السويسرية أن المجرمين والمحتالين والسياسيين الفاسدين يستخدمون النظام المصرفي السويسري لتخزين أكثر من ثمانية مليارات دولار من الأصول، ورغم ذلك لم تتأثر قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالملاذات الضريبية الآمنة”.

ويتشكك عديد من الخبراء في أن إدراج جزر البهاما وفيرجن البريطانية وغيرها من الملاذات الآمنة في القوائم الرمادية للاتحاد الأوروبي ووضعها تحت العدسة المكبرة لن يحقق كثيرا من النتائج طالما لم تتم مراجعة المعايير التي تعمل بمقتضاها تلك الملاذات، إذ سيكون في قدرتها الاستمرار في القيام بما تقوم به دون أي تداعيات ويمكن شطبها من تلك القوائم في مراجعات تالية.

ومن المؤكد أنه حتى وقوع الأزمة المالية عام 2008 كان ينظر إلى الملاذات الآمنة على أنها “خزائن ضخمة” يضع فيها المشاهير والأثرياء أموالهم، لكن الأزمة المالية العالمية كشفت أن الأمر أكبر من ذلك بكثير وأن تلك الملاذات الآمنة ليست خزائن ضخمة، إنما تلعب دورا كبيرا ومركزيا في الاقتصاد العالمي.

ووفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن عائدات الضرائب السنوية التي تضيع على الحكومات جميعا نتيجة تلك الملاذات تراوح ما بين 500 و600 مليار دولار، ومن هذا المبلغ يضيع نحو 200 مليار دولار على الاقتصادات منخفضة الدخل.

وأوضح لـ”الاقتصادية” البروفيسور وليم أستون أستاذ النظم المصرفية السابق في جامعة أكسفورد، أنه “لفهم خطورة تلك الملاذات الآمنة على الاقتصادات الناشئة، فكر مليا معظم الملاذات الآمنة تابعة لاقتصادات متقدمة، ومن ثم فإن عددا كبيرا من الأثرياء في دولة إفريقية مستقرة أو غير مستقرة أو دولة في أمريكا اللاتينية قد يخبئون أصولهم المالية وثروتهم في جنيف أو جزر كايمان، بينما من المشكوك فيه أن يخبئ أثرياء بريطانيون أو سويسريون أمولهم في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية”.

وأضاف أنه “باختصار الملاذات الآمنة، ثقب أسود يمتص أموال الاقتصادات الناشئة، لكنه لا يقف عند هذا الحد بل يعزز عدم المساواة الاقتصادية دوليا، إذ تستفيد من مزاياه وأبرزها الضرائب المنخفضة على الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وأغلبها إن لم يكن جميعها مقره الرئيس في الاقتصادات الغنية، بينما تعجز الشركات الصغيرة أو المتوسطة في الاقتصادات الناشئة عن المنافسة الضريبية مع تلك الشركات”.

Scan the code