التخطي إلى المحتوى

 العرب حائرون في تعاطيهم مع الموجة العاطفية والجماهيرية والإعلامية التي واكبت رحيل الملكة إليزابيث الثانية. فإلى جانب تفاصيل عديدة، استهجن كُثُر مشهد وقوف الناس في الطابور لساعات طويلة – طوعاً – من أجل إلقاء نظرة الوداع على الجثمان الملكي. ثم الحِداد الوطني “الحديدي” والمراسم التي استمرت أياماً طويلة من شأنها أن تزيد موازنة الحدث الحزين، ووطأته على الحياة العامة، مهما كان تاريخياً… لدرجة أن ثمة مَن سخر فقال إن تشارلز ربما يلحق بوالدته قبل أن يتسنى له تنصيبه ملكاً.

كثُر أيضاً هالَتهم جرعة “التقديس” التي تضمنتها تغطية “بي بي سي” والصحف البريطانية والعالمية، في استرجاع تاريخ الملكة وذكرياتها ومراحل حياتها على عرش دامَ لها أكثر من سبعة عقود.

كما بدت كلفة مراسم تأبين إليزابيث الثانية، نقطة جديرة بالتوقف بالنسبة إلى كثيرين، سواء من المجنّسين البريطانيين والمقيمين في المملكة، أو من متابعي العالم العربي، على اعتبار أن الكلفة هذه سيسددها دافع الضرائب البريطاني. وفي حين سرت المُبالغات مثل العدوى في وسائل التواصل الاجتماعي، لتطير فوق الرؤوس أرقام بالمليارات، فإن الإعلام البريطاني نفسه الذي مجَّد ملكته الراحلة، طرح السؤال، وإن لم يتمكن من الحصول على إجابات قاطعة. فإن كان مؤكداً أن كلفة مراسم جنازة الملكة الأمّ، إليزابيث أنجيلا مارغريت بوز ليون، بلغت نحو 5,4 ملايين جنيه استرليني، وهي بالفعل من أموال دافعي الضرائب، فقد ورَد أن كلفة جنازة ابنتها، الملكة إليزابيث الثانية، بلغت أكثر من ذلك على نحو مُعتبر. وتراوحت التقديرات، شبه الرسمية وغير الرسمية، بين 8 ملايين و20 مليون جنيه استرليني. وسواء كان المبلغ بالملايين أو بالمليارات، وبعيداً من العرب البريطانيين دافعي الضرائب، لماذا يؤرق الرقم هذا عرباً في سائر الكوكب؟

الافتتان بالعائلة الملَكية البريطانية، وبالملكة الراحلة تحديداً، شأن معقّد على الأرجح، لا يفسره علم النفس وحده، ولا السياسة وحدها، ولا الثقافة وتاريخ الامبراطورية التي، ذات مرة، لم تغِب عنها الشمس. الأرجح أنه لا بد من تضافر تلك الأدوات والصحائف كلها من أجل فهم أعمق وأقرب للحقيقة. لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو أن عُدّة التفكيك هذه يصحّ إعمالها في تلاوين الوعي العربي إزاء هذه الوفاة المَلكية دولية الأثر.

فمواطنون من مصر السيسي، وعِراق المليشيات، ولبنان العصابة الحاكمة الإفلاسية، وسوريا الأسد والدم والنار والرعب والعوز، وتونس المستبد الجديد، وفلسطين المنكوبة باحتلال إسرائيلي وسلطة وطنية متهالكة أو حزبية دينية متزمتة، وغيرها.. كلّهم يبدو غاضباً بمفعول رجعي، وبأثر من استعادة الماضي الكولونيالي البريطاني في المنطقة، وهذا متوقع في بلادنا التاريخانية، لكنه أيضاً لا يسهّل على الغاضبين هضم مشاعرهم هم أنفسهم، والمتناقضة بين الإعجاب وتتبع أخبار هؤلاء المشاهير وبين الموقف الإيديولوجي المتقادم.

وثمة خيبة أمل في ما لطالما اعتبره هؤلاء ديموقراطية بريطانية تتطور منذ أكثر من قرن، بين مُلْكِ المُلوك والملكات، وحُكم رؤساء ورئيسات الوزراء، بما في ذلك تنصيب نساء أساقفة في كنيسة ترأسها الملكة نفسها. إضافة إلى ألق يثير الحسد وطموح التعلّم منه والتشبّه به، سواء في ما يجب أن تكون عليه الصحافة (ولا يُنسى تأثير هيئة الإذاعة البريطانية المديد عربياً في هذا المجال)، أو الحريات التي أخرجت آراء بريطانيين ناقدين لمحطات كثيرة، فأحرجت العائلة الملكية مراراً، مثل معاناة الأميرة الراحلة ديانا، والمخصصات المالية للقصر، والإشكاليات التي أحاطت بدخول امرأة ملوّنة كنف العائلة البيضاء، أي زوجة الأمير هاري، وكل ما نتج عن ذلك من كتب ومقالات ودراما سينمائية وتلفزيونية جعلت حرية التفكير والإبداع والسجال تضاهي السلطة المعنوية للملكة، والسلطة السياسية لرئاسة الوزراء والأحزاب، بل تفوقُها أحياناً.

يزعل العرب، على الأرجح، إذ يرون نُصُباً بنوه بأيديهم من قطع غربية عموماً، والآن بريطانية خصوصاً، يتداعى أمام عيونهم. هم الذين، حين يموت في بلادهم رئيس أو ملك أو حتى قائد مليشيا، يعيشون فروض الحزن والولاء قسراً.. وحين لا يموت أحد أيضاً. وهم الذين يتصرف رؤساؤهم وممثلوهم المُنتخبون، كملوك متوّجين، وأحياناً مدى الحياة. هم الذين لا يملكون تغيير الوجهة التي تُنفق فيها أموالهم الضريبية، بل يُحَمّلون أعباء فساد حكّامهم بمئة طريقة وطريقة. هم الذين لا يعرفون إن كانوا أنظمة ملكية أم رئاسية أو برلمانية، توافقية أم مزرعة مستبد مستنير أو ظلاميّ، ولا إلى أي “ديموقراطية” يحتكمون، بل ما إذا كانت “شورى” الطوائف أو العسكر تُعدّ ديموقراطية ما، أم هرطقة خادعة للاستهلاك والرطانة.

ويرتاح العرب للفضفضة. هذا الموضوع البريطاني يستطيعون أخذ راحتهم في انتقاده وتشريحه، مثلما يفنّدون مظاهر العنصرية والتشدد الديني والطبقية في أصقاع الغرب. في جانب من نقدهم، هم ينفّسون مكبوتات محلية شتى. وفي جانب آخر، يعبّرون بصدق عن صلب موضوعهم: الحلم بالانتهاء يوماً في لندن (أو باريس أو برلين أو واشنطن، لا يهم، لكن لندن الآن هي الحدث)، على غرار ما حققه نيابة عن المصريين مثلاً، لاعب الكرة محمد صلاح، ومثلما وصل رجل من أصول هندية مسلمة ومن الطبقة العاملة إلى منصب عمدة العاصمة الإنكليزية. هذا الحلم يكدّره مشهد ثقيل على قلوبهم. لا يهم إن كان طوعياً عاطفياً وتقليدياً بالنسبة إلى ملايين البريطانيين. ولا يهم أيضاً إن كان اعتقال مناهضي الملَكية في الشوارع، لا سيما تلك المواطنة التي حملت لافتة “ليس مَلِكي”، وبدعوى تطبيق قانون “يحمي مشاعر المِلَكيين”، قد أشعل مواقع التواصل والإعلام البريطاني بنقاش جدّي، وأيضاً أثار حفيظة ملايين البريطانيين.

الموضوع، بالنسبة إلى العرب الممتعضين من مظاهر “تطويب” الملكة الراحلة، ومن دون الانضمام إلى جوقة التقريع الفارغ لمحمد صلاح على تغريدة التعزية، هو موضوع محلي. الخيال المحلي. الأمنيات المحلية الطائرة بأصحابها فوق حدود السلطات السياسية والاجتماعية والدينية. والمكبوت المحلّي في مضمار النقد الحر. ولعلهم لا يُلامون إذا عبّروا عن ذلك كله كمَلَكِيين أكثر من الملكة وجمهورها في افتتانهم بتلك البقعة من العالم وتوجسهم من خسارتها، خسارة صورتها، لمصلحة ما يختبرونه بالعقل والجسد في جمهورياتهم.

Scan the code