في الصباح الباكر اصطف عشرات الصحافيين أمام مدخل مرفأ طرابلس بانتظار تغطية الحدث المنتظر “نزول الغواصة الهندية الحوت السادس” إلى عمق بحر الميناء بغية انتشال القارب الغارق منذ 23 أبريل (نيسان) 2022. مقابل منصة خشبية، انتظم هؤلاء لسماع كلمة قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني، العميد الركن هيثم ضناوي، وهي بمثابة صافرة عودة أعمال البحث عن الركاب بعد فترة طويلة من التوقف بسبب عدم توافر التجهيزات اللوجيستية.
خاض رجال الصحافة والإعلام رحلة شاقة تحت شمس أغسطس (آب)، وفي قوارب منفصلة اتجه أهالي المفقودين نحو البقعة المتوقع غرق قارب للهجرة غير الشرعية، حمل على متنه قرابة 80 راكباً، لكن بعد 4 ساعات من الإقلاع عن شاطئ البحر نحو حدود المياه الإقليمية كانت المفاجأة غير السارة بأن “الموج العالي والرياح القوية تقف حجر عثرة أمام نزول الغواصة إلى البحر، ما يشكل خطراً على سلامتها وسلامة فريق عملها، بالتالي لا بد من العودة بها إلى شاطئ الأمان في مرفأ طرابلس على أمل العودة في النهار التالي انتظاراً لظروف مواتية للغوص”.
سلامة الغواصة أولوية
من على شرفة منزلها المطلة على مرفأ طرابلس، وقفت عائلة الجندي تراقب عودة الغواصة “الحوت السادس” خاوية الوفاض. عولت العائلة كثيراً على خبر أو أثر تأتي به التقنية الحديثة، لكن الخبر اليقين أن غانية وسلام ابنتي العائلة ما زالتا في عداد المفقودين. صباحاً، ركبت الوالدة بارعة وصهرها ناجي فوال القارب المخصص للأهالي، واتجهوا نحو الموقع المفترض لغرق القارب، استعاد هؤلاء لحظات من المأساة التي عاشوها قبل أربعة أشهر، لكن في الوقت عينه شعروا بأنهم متروكون لمصيرهم. شهد هؤلاء خلال الأشهر الماضية، تقهقر نوعية الحياة في البلاد، وعلى الرغم من كل الخسائر التي دفعوها، يرفضون توجيه اللوم إليهم بأنهم عرضوا حياتهم للخطر. يبرر هؤلاء موقفهم بأن “هناك أناساً سبقوهم وبلغوا إيطاليا، كما أن الوضع في لبنان لم يعد يحتمل. لم يعد هناك إمكانية للحصول على علاج أو دواء، كما أن الوظائف باتت شحيحة”، ويكرر ناجي “ألم يقولوا لنا: يلي مش عاجبوا يفل، حاولنا الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، وقفوا في وجهنا، وقاموا بصدم القارب عدة مرات وصولاً إلى غرق العشرات بلمحة بصر”.
أما الشقيقان مصطفى وإبراهيم، وهما في عداد الناجين من الحادثة، تلتقي وجهات النظر لديهم بأن هناك إهمالاً كبيراً في حق عوائل المفقودين، وأنهم لم يلقوا العناية الكافية. يقول مصطفى “كان بإمكان الدولة إحضار معدات لسحب القارب من الأيام الأولى، لكن تأخر الأمر لأشهر، والآن قد تكون الجثث تحللت، ولم يبق منها شيء”، فيما يشير إبراهيم إلى أنه “في حال توافر الظروف المواتية قد تكرر العائلة رحلة الهجرة إلى بلاد تؤمن بكرامة الإنسان”.
من جهتها، تتحدث الوالدة بارعة عن تمسكها بأي أثر لبناتها. تقول “نريدهم كيفما كانوا، سواء قطع لحم، أو عظام. تكفينا قطعة ثياب، أو مقتنيات شخصية. نريد دفنهم لزيارتهم متى أمكن”، مضيفةً “سيكون الأمر أفضل بكثير من الآن، حيث أتوجه إلى البحر، أمشي، أتأمل، وأتحدث معهن، من أجل التنفيس عما في داخلي من حزن وألم الفقد”.
حالة عائلة الجندي، تمثل بقية أهالي المفقودين، حيث يقدر عددهم الأولي بـ33 مفقوداً أكثريتهم من النساء والأطفال. كان البعض منهم يتجمعون في الغرفة الزجاجية المقفلة من القارب، التي سحبها التيار في أعقاب حادثة التصادم بين القارب وطراد تابع للجيش اللبناني، وهو أمر ما زالت معالمه غامضة في انتظار سحب القارب والكشف عليه، وقد تحسم الغواصة الجدل القائم بين روايتين متعارضتين من الناجين من ناحية، والقوة البحرية للجيش اللبناني، من ناحية أخرى.
القوة البحرية للجيش
عند الثامنة والنصف صباحاً، وبعد اكتمال التجهيزات، ألقى قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني كلمة، ضمنها موقف القيادة من عملية إحضار الغواصة والتعاون مع الجهات التي شاركت في إحضار الغواصة وتأمين نفقاتها.
وأعلن ضناوي أنه “بعد جهد كبير، تمكنا من جلب الغواصة والفريق المشغل إلى لبنان”. أضاف أن “العملية هي نتيجة تضافر جهود مواطنين لبنانيين مدنيين وعسكريين من أجل انتشال المركب الغارق بتاريخ 23 أبريل على عمق نحو 470 متراً، وعلى متنه عدد من المفقودين”.
كشف ضناوي عن بعض مواصفات الغواصة، حيث يبلغ طولها 5.62 متر، وعرضها 2.24 متر، ويمكنها النزول إلى عمق 2180 متراً، كما أن طاقم الغواصة يتألف من 3 أفراد لقيادتها، وهي تبقى على اتصال دائم أثناء الغوص مع مدير الغاطسة، كما أنها غير موصولة بأسلاك إلى السطح، فهي تنجز كامل مهمتها قبل العودة مع التسجيلات والملاحظات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما لفت ضناوي إلى إنشاء القوات البحرية غرفة عمليات خاصة لمواكبة عمل الغواصة بدقة، كما طلب من المواطنين عدم الاقتراب من منطقة العمليات التي حددها بـ2 ميل غرب جزيرة الرمكين، بالإضافة إلى عدم الاقتراب من المراكب التي تعمل في المنطقة لمسافة لا تقل عن 1 كلم. وبحسب ضناوي، يفترض أن تستمر المهمة لأيام عدة، وأن القوات البحرية قدمت جميع التسهيلات التقنية واللوجيستية التي تحتاج إليها الغواصة لإنجاز مهمتها بمتابعة شخصية من قيادة الجيش.
الجهود متطوعة
جاءت الغواصة إلى لبنان بجهود تطوعية، حيث أسهم متبرعون أستراليون في تأمين تكاليف إحضارها، بالتنسيق مع حزب “القوات اللبنانية” والنائب اللواء أشرف ريفي الذي حضر إلى المرفأ وتابع عملية البحث الأولية على مكان غرق القارب.
وصف ريفي ما حصل في طرابلس بالفاجعة الكبرى، وأثنى على التعاون مع قيادة الجيش ممثلة بالعماد جوزيف عون في مهمة محاولة انتشال المركب، وجثث الضحايا، قائلاً “من يكرم شهداءه، يكرم نفسه، ووطنه”، كما توجه بالشكر إلى المغتربين الأستراليين.
حدد ريفي توجهين أساسيين لمهمة الغواصة، أولها خدمة التحقيقات لكشف سبب الفاجعة، مشيراً إلى طلب قائد الجيش تصوير القارب من جميع جوانبه ووضع الصور في تصرف التحقيق لكونها معطيات ضرورية، أما النقطة الثانية، فهي استخراج الزورق والضحايا الشهداء. كما أسف ريفي لاستمرار رحلات الهجرة غير الشرعية، مؤكداً أن علاج المشكلة يبدأ بمعالجة الأسباب التي تدفع إليها.
ورداً على سؤال “اندبندنت عربية” حول الخطة “باء الاحتياطية” في حال عدم التمكن من إتمام العملية خلال فترة الأسبوع التي قدرتها الجهات المنظمة، وضمانات عدم العبث بهيكل القارب، أجاب ريفي: “الغواصة تؤجر بشكل يومي، والفترة المفترضة هي أسبوع من أجل مسح كامل المنطقة من خلال الوسائل الفنية المجهزة بها للكشف على قطر 200 متر، كما أن قيادة الجيش حددت النقطة التقريبية لمكان الغرق، وفي حال لم نتمكن خلال أسبوع من العثور على شيء، سنسأل القبطان، وقد نمدد المدة الزمنية عند الحاجة”.
في موازاة البحث عن القارب الغارق قبالة شاطئ الميناء، كان لافتاً استمرار رحلات الهجرة غير الشرعية، آخرها رحلة انطلقت من العبدة عكار، وعلى متنها العشرات من أبناء اللاجئين الفلسطينيين من مخيم البداوي، ومواطنون لبنانيون من قرى قضاء المنية. وتأتي الرحلة قبل بلوغ موسم الشتاء، وتجنباً للأحوال المناخية العاصفة.