تفتح العقوبات الأميركية المفروضة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، “المتأخرة” نسبياً، الباب أمام نقاشات كثيرة أثيرت حول الرجل منذ سنوات، ونقاشات أخرى ترتبط بالموقف الأميركي من البلد ومن المحسوبين عليها فيه.
في البداية، لا بد من العودة إلى اشارات أميركية كثيرة وردت حيال فرض عقوبات على سلامة. تلك الإشارات وردت في عقوبات أخرى تضمنت اسمه، ومن خلال تسريبات عديدة. اختارت واشنطن التوقيت الذي يلائمها، وتحديداً بعد مغادرة سلامة لمنصبه، كي لا تطال العقوبات المصرف المركزي اللبناني لو كان سلامة في موقعه. وكان سينتج عن ذلك حالة من الحصار، لا سيما أن المصارف المراسلة لا بد لها أن تتوقف عن التعامل مع لبنان.
لا خيمة أميركية فوق رأس أحد
صُمّت آذان اللبنانيين، في احتساب سلامة على الأميركيين، وأنه محمي من قبلهم، وهو ما يسري على غيره من المسؤولين المهددين بالعقوبات أو الذين يعتبرون أنفسهم محميين منها. في هذه المعادلة، ليس رياض سلامة وحيداً، وعملياً لم يكن حاكماً بقدر ما كان محكوماً بجملة ضوابط وعوامل وسياسات لم يكن بيده الخروج منها، فتحول إلى ما يشبه “بروكر” لترتيب آليات السوق وسياسات النقد بما تقتضيه مصلحة الشركاء أو الحلفاء. لكن الغرابة تبقى في عدم فهم اللبنانيين للآلية الأميركية. فتأخير فرض العقوبات كان يُفسّر بأنه حماية لسلامة. ولحظة فرضها، نفضت اليد منه. ليتبين بوضوح أن لا خيمة فوق رأس أحد أميركياً.
سياسة موازنة العصا
في الجانب الأوسع ترجمة لآلية السياسات الأميركية، يمكن العودة بالمشهد إلى الخروج المدوي من أفغانستان. ولاعتماد سياسة موازنة العصا من الوسط في ملف العلاقات مع دول الخليج من جهة ومع إيران من جهة أخرى. ففي الفترة التي كانت تحاول فيها واشنطن إعادة ترتيب العلاقة مع دول الخليج ولا سيما المملكة العربية السعودية، من خلال تقديم عروض تحالفية جديدة، وإغراءات بإرسال الجنود الأميركيين والآليات الحربية إلى مياه الخليج، كانت واشنطن ماضية في مفاوضاتها مع طهران والتي أرست إتفاقاً على إطلاق سراح رهائن مقابل الإفراج عن أموال إيرانية؛ حصل ذلك بجهود خليجية وقطرية تحديداً. لتبدو النتيجة بوضوح، الإستعراض العسكري ومحاولة إرضاء دول الخليج بالمعنيين الأمني والعسكري، ما شكل عناصر ضغط على إيران. ترافق ذلك مع كم كبير من الضخ الأميركي ومن يدور في فلك واشنطن بترقب حصول متغيرات على الساحة السورية، من خلال قطع الحدود العراقية السورية وبالتالي صدّ خطوط الإمداد الإيراني باتجاه دمشق وبيروت، ليترافق ذلك مع توهمات للكثيرين بأن واشنطن على مشارف القيام بخطوات عسكرية وسياسية من شأنها أن تحدث تغييرات في الواقع السوري.
وهم تصعيد واشنطن
هكذا هي واشنطن، في السنوات الأخيرة، تصعّد إلى حدود توهم الكثيرين بأنها اقتربت من الإنقضاض حتى تُحجم وتذهب باتجاه التسويات، ولنا في الذاكرة عبرة مع باراك أوباما الذي شحن حاملات الطائرات بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي ومن ثم تراجعت بناء على وساطة روسية، فيما الغاية الأبرز كانت الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران ولو قضى ذلك بسيطرة طهران على سوريا، العراق ولبنان.
سلامة وأحجار الداما
هو المنطق نفسه ينطبق على التعاطي الأميركي مع لبنان، منذ ما قبل انفجار المرفأ إلى ما بعده، وما قبل ترسيم الحدود البحرية وما بعدها. يتوهم اللبنانيون بأن البوارج الأميركية ستأتي لنصرتهم في مواجهة خصمهم، يتحمّسون، يقدمون، فتبرز لهم تسوية أميركية مرحلية مع الخصم أو مع رعاته.
رياض سلامة في هذه المعادلة، كان أحد أحجار الداما على الطاولة الأميركية في لبنان، وهو الذي دفع ثمن السياسات التي قام بها، مع الدولة ومع جماعاتها. وهو الذي ابتكر نموذج الإقتصاد النقدي، ما سهّل تحويل لبنان إلى ساحة لتبييض الأموال، فتخرج واشنطن لتدّعي مكافحتها. ما ينطبق على سلامة ينطبق على غيره، مستقبلاً، وهو مسار مفتوح منذ تذخير حماسة اللبنانيين للتصدي لحزب الله ما قبل 7 أيار، وصولاً إلى ما بعده. لتستمر الدوامة ذاتها، على وقع شعارات متضاربة، بعضها يتصل بإظهار الحدود البرية، أو بتوهمات أخرى حول جعل لبنان منطقتين الأولى خاضعة لسيطرة الحزب والأخرى يُطلق عليها اسم “المنطقة الحرّة”. ليأتي الجواب الأميركي في المقابل رداً على كل هذه التساؤلات، لا يمكن حصول أي تقسيم في أي بلد بالعالم، طالما أن هناك مصرفاً مركزياً واحداً، وهذا لا يزال قائماً في لبنان كما في سوريا وصولاً إلى السودان، وبعدها يكون الحوار مع الأقوى.