التخطي إلى المحتوى

تُعد أجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية، التي تصور الجسم البشري من الداخل، إحدى الأدوات الطبية التي يُنسب إليها الفضل في إنقاذ حياة الكثيرين، وقد تمكَّن الباحثون مؤخرًا من تقليص حجم المسبار اليدوي المعتمد على الموجات فوق الصوتية -الذي يتطلب عادةً فنيين على مستوىً عالٍ من التدريب من أجل تحريكه فوق الجلد- ليصير رقاقةً مسطحةً بحجم طابع بريد، يمكن تثبيتها على الجلد باستخدام لاصق حيوي خاص، ويمكن للأداة الجديدة أن تسجل مقاطع فيديو عالية الدقة على مدار يومين متواصلين، إذ ترصد نشاط الأوعية الدموية والقلب في أثناء ممارسة التمرينات الرياضية، أو تمدُّد المعدة وتقلُّصها في أثناء ابتلاع أفراد العينة المشاركين في الاختبار للعصير وهضمهم له.

يعلق زوانهي جاو -اختصاصي الهندسة الميكانيكية في معهد ماساتشوستس للتقنية، وأحد الباحثين المشاركين في الدراسة التي تقدم توصيفًا للأداة الجديدة، والتي نُشرت في دورية «ساينس» Science– قائلًا: “يتجلى لك جمال هذه الأداة في الحال عندما تعرف أنك تستطيع أن تلصق بجسمك هذا المسبار المعتمد على الموجات فوق الصوتية -والذي يمكن وصفه بأنه مكبر رقيق للموجات فوق الصوتية- على مدار 48 ساعة”؛ فعن طريق التقاط أداة التصوير هذه القابلة للارتداء صورًا ثابتةً وتسجيلها مقاطع فيديو للأعضاء الداخلية خلال هذه الفترة، يمكن الاستعانة بها في تشخيص النوبات القلبية والأورام الخبيثة، واختبار فاعلية الأدوية، وتقييم الحالة الصحية العامة للقلب أو الرئة أو العضلات، ويضيف جاو قائلًا: “من الممكن أن يغير هذا الجهاز نموذج التصوير الطبي الراهن عن طريق توطيد دعائم التصوير المتواصل طويل المدى، كما قد يغير النموذج السائد في مجال الأجهزة القابلة للارتداء”؛ فمن المعلوم أن الأجهزة التقليدية للتصوير بالموجات فوق الصوتية تمتاز بتفوُّقها في تصوير ما تحت الجلد من غير أن تُلحق ضررًا بالجسم، غير أنه يصعب الحصول على مثل هذه المسوح، تقول نانشو لو، اختصاصية الهندسة الميكانيكية في جامعة تكساس في أوستن، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة لكنها أسهمت في كتابة التحليل المرافق المنشور في دورية «ساينس»: “يتطلب المسبار اليدوي التقليدي فنيين على مستوىً عالٍ من التدريب من أجل تحريك المسبار فوق الجلد بطريقةٍ صحيحة، ووضع بعض الهلام السائل بين المسبار والجلد، وكما قد تتوقع، فإن المهمة تكون مملةً للغاية وقصيرة المدى ويعوقها الكثير من القيود”، وتوضح لو قائلةً: إنه نظرًا لاحتياجها إلى عنصرٍ بشري ذي خبرة، فإن أساليب التصوير هذه تتسم بتكلفتها الباهظة وعدم إمكانية استخدامها خلال اختباراتٍ تشهد ممارسة المشاركين فيها لتدريباتٍ رياضية أو إخضاع أجسامهم لإجهادٍ ناتجٍ عن الحرارة أو ظروفٍ بيئية متطرفة، لذلك تصف لو الأمر قائلةً: “ثمة عيوبٌ كثيرة لأجهزة التصوير التقليدية المعتمدة على الموجات فوق الصوتية، لذا فإذا تمكنَّا من تحويل أجهزة الاستشعار بالموجات فوق الصوتية إلى أجهزةٍ محمولة يَسهل استخدامها ويمكن ارتداؤها، فإن هذا سيتيح دون شكٍّ الكثير من الإمكانيات الجديدة”.

ونظرًا إلى تنوُّع تطبيقاتها المحتملة، حاول باحثون آخرون صنع رقعٍ لاصقة للتصوير بالموجات فوق الصوتية، لكن الأجهزة السابقة صُمِّمت على نحوٍ يجعلها قابلةً للتمدد من تلقاء نفسها؛ حتى تلتصق بالجلد الناعم المرن، لكن هذا العامل الشكلي أثَّر سلبًا على جودة الصورة؛ نظرًا لعجزه عن استيعاب عددٍ كبيرٍ من محولات الطاقة، ويُقصد بها في حالتنا هذه وحدات تعمل على تحويل الطاقة الكهربائية إلى موجاتٍ صوتية ذات ترددات عالية للغاية بحيث تعجز الأذن البشرية عن رصدها، يرسل المسبار المعتمد على الموجات فوق الصوتية هذه الموجات إلى الجسم البشري عبر طبقةٍ من الهلام اللزج، لتصطدم بالأعضاء والبنى الداخلية الأخرى ثم ترتد إلى مصفوفة المحولات التي تعمل على تحويل الموجات الميكانيكية إلى إشاراتٍ كهربائية من جديد وإرسالها إلى الحاسوب كي يترجمها إلى صور.

وتتحسن جودة الصور بزيادة عدد محولات الطاقة، “الأمر أشبه بأداء الكاميرا”، على حد وصف فيليب تان، اختصاصي الهندسة الكهربائية وطالب الدراسات العليا في مختبر لو بجامعة تكساس في أوستن، والذي لم يشارك هو الآخر في الدراسة الجديدة لكنه أسهَم في كتابة التحليل، لا يستطيع المسبار اللاصق المرن الذي يعتمد على الموجات فوق الصوتية، والذي يجب أن يتمدد مع حركة الجلد أن يحشد أكبر عددٍ ممكن من محولات الطاقة في المصفوفة، وعندما يتحرك مرتدي المسبار، يتغير تشكيل المحولات، ومن ثم يصعب التقاط صورٍ واضحة.

بدلًا من أن يجعلوا الأداة ذاتها مرنة، ثبَّت جاو وفريقه مسبارًا جامدًا، لا تتجاوز سماكته ثلاثة ملليمترات، على طبقةٍ مرنة من مادة لاصقة، هذه المادة اللاصقة تحل محل السائل اللزج الذي يوضع بين الجلد وذراع جهاز التصوير التقليدي المعتمد على الموجات فوق الصوتية، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المادة اللاصقة عبارة عن مزيج من بوليمر غني بالماء يسمى الهلام المائي وبوليمر مرن، وهو مادةٌ شبيهةٌ بالمطاط، يقول جاو موضحًا: “إنها قطعةٌ من هلام مائي صلب يحتوي على نسبة من الماء تزيد على 90%، غير أنه في حالة صلبة مثل جيلاتين «جيل-أو» Jell-O، نستخدم هذا الغشاء الرقيق للغاية من البوليمر المرن في تغطية سطح «جيل-أو»، مما يمنع تبخُّر الماء الموجود داخل الهلام إلى الخارج”، هذا اللاصق الحيوي لم يقتصر نجاحه على لصق المسبار بإحكام بالجلد لمدة 48 ساعة فحسب، بل وفر كذلك طبقةً أشبه بالوسادة لحماية الإلكترونيات الصلبة من انثناء الجلد والعضلات.

أراد جاو وفريقه تصوير مختلِف أجهزة الجسم، ولذا عكفوا على اختبار نسخٍ من المسبار تُصدِر موجاتٍ عند ترددات مختلفة ومن ثم تخترق الجسم وصولًا إلى أعماقٍ مختلفة؛ فترددٌ عالٍ مثل 10 ميجاهرتز، مثلًا، قد يصل إلى عمق سنتيمترين تحت الجلد، استخدم الباحثون هذا التردد في رصد نشاط الأوعية الدموية والعضلات في أثناء تحوُّل المشاركين في الاختبار من وضع الجلوس إلى الوقوف أو في أثناء ممارستهم لتمريناتٍ رياضيةٍ قوية، في المقابل، تبلغ الترددات الأقل أعماقًا أكبر، إذ ينفذ تردد مقداره ثلاثة ميجاهرتز إلى عمقٍ يبلغ قرابة ستة سنتيمترات، مما يتيح تصوير الأعضاء الداخلية، استعان الباحثون بهذا التردد في تصوير تجاويف القلب الأربعة لدى أحد المشاركين في الاختبار، وتسجيل نشاط معدة شخص آخر في أثناء إفراغها لمحتوياتها بعدما هضمت كوبين من العصير، أشار جاو إلى أن الباحثين عمدوا كذلك إلى مضاهاة الصور التي جمعها مسبار الموجات فوق الصوتية الصلب بالصور التي جمعها جهاز التصوير بالموجات فوق الصوتية المرن، وأضاف قائلًا: “يمكنك أن تلاحظ أن دقة صورنا تفوق دقة الصور التي التقطها جهاز التصوير المرن بنحو قيمة أسية واحدة [10 أضعاف]”.

من الممكن الاستعانة بأجهزة التصوير التي تمتاز بمراقبةٍ متواصلة لأجزاء محددة من الجسم في رصد مجموعةٍ متنوعةٍ من الأمراض وتشخيصها؛ فقد يكون بمقدور الأطباء أن يتابعوا عن كثب نمو ورمٍ ما بمرور الوقت، وربما يرتدي شخصٌ ما أشد تعرضًا لارتفاع ضغط الدم رقعةً تعمل بالموجات فوق الصوتية لقياس ارتفاع ضغط الدم لديه وتنبيهه عند حدوث هذا الارتفاع أو تتبُّع مدى نجاعة علاجٍ ما، إضافةً إلى ذلك، يمكن أن يبقى مصابو «كوفيد-19» في منازلهم، وهم يعلمون أن هناك جهاز تصوير سينبههم إذا ما تسبَّب مرضهم في تدهور حالة رئاتهم بما يستدعي إيداعهم المستشفى، لعل أهم تطبيقات هذا الجهاز يكمن في رصد النوبات القلبية وتشخيصها، يقول جاو معلقًا: “أمراض القلب والأوعية الدموية هي أهم مسببات الوفاة في العالم أجمع، وفي الولايات المتحدة كذلك”، وصحة القلب محور اهتمام مطوري الأجهزة الأخرى القابلة للارتداء؛ فعلى سبيل المثال، تستطيع الساعات الذكية، كساعات «أبل» Apple، أن تتبع الإشارات الكهربائية التي تُبيِّن نشاط القلب عن طريق ما يسمى بمخطط كهربية القلب، وهو ما يمكن أن يُستخدم في تشخيص النوبات القلبية، على الأقل في بعض الحالات، ينوه جاو قائلًا: “ثمة دراسات بالفعل تشير إلى أن مخطط كهربية القلب يمكنه تشخيص نحو 20% فقط من النوبات القلبية، في واقع الأمر، يتطلب تشخيص أغلب النوبات القلبية تقنيات تصوير خاصة، كالتصوير بالموجات فوق الصوتية”، والتصوير المتواصل لقلب المريض يمكن أن يُسهم في رصد الأعراض وتقديم تشخيصٍ مبكرٍ للحالة.

يقول تان: “يفتح هذا الجهاز الجديد آفاقًا لأنواع جديدة من التشخيص الطبي لا يمكن إجراؤها في وسط ثابت، وتلك أبرز مزاياها”؛ فعند تقييم حالة القلب الصحية، على سبيل المثال، يكون من المفيد قياس نشاط القلب في أثناء بذل الشخص جهدًا بدنيًّا، لكن يصعب الإمساك بذراع جهاز التصوير بالموجات فوق الصوتية على صدر الشخص الراكض المغطى بالهلام اللزج، يضيف تان قائلًا: “استخدم الباحثون رقعةً تعمل بالموجات الصوتية يمكن ارتداؤها بحيث لا يُضطر إلى الإمساك بمحول الطاقة وتثبيته فوق الشخص المراد تشخيص حالته، وتمكنوا بالفعل من إثبات إمكانية الحصول على صور للقلب ذات جودة عالية للغاية حتى في أثناء الحركة”.

وبرغم ما سبق، لا يزال هذا اللاصق الحيوي غير جاهز للاستخدام إلى الآن، ومن أسباب عدم جاهزيته أنه يتعيَّن توصيله عن طريق أسلاك بحاسوب يمكنه جمع البيانات التي ينتجها المسبار وتحليلها، يشير جاو قائلًا: “نوصِّل هذا المسبار عبر سلك بنظامٍ لحيازة البيانات، لكن فريقي البحثي يعمل جاهدًا على تقليص حجم جميع المكونات ودمجها كاملةً في جهاز لاسلكي”، يُشار إلى أن هدف جاو النهائي هو تحديث الرقعة عن طريق تزويدها بمصدر مصغر للطاقة ونظام لاسلكي لنقل البيانات، وهو هدفٌ يتفق كلٌّ من لو وتان على إمكانية تحقيقه بفضل المكونات الإلكترونية الآخذة في التضاؤل وأساليب التصنيع التي تتيح دمج هذه الميزات في “رقاقة موجاتٍ فوق صوتية”، يشير لو إلى أنه من الممكن تطوير مثل هذا الجهاز والاستفادة منه عمليًّا في غضون خمس سنوات، إذا ما نجح هذا الميدان في استقطاب استثماراتٍ خاصة وفيدرالية، وإن كان سيتعين عندئذٍ الانتظار إلى حين الحصول على موافقة الجهات الرقابية الفيدرالية.

قد تُضاف لواصق التصوير بالموجات فوق الصوتية -في نهاية المطاف- إلى صفوف الأجهزة القابلة للارتداء التي تراقب صحة الإنسان، والتي تشمل الأجهزة الحالية الخاصة بجمع المعلومات المتعلقة بمعدل ضربات القلب، وجودة النوم، بل حتى التوتر، يختتم لو حديثه قائلًا: “أجسامنا البشرية تبعث بالكثير من البيانات شديدة الخصوصية التي تمتاز بقدرٍ بالغٍ من الاستمرارية، والتوزع، وتعدُّد الأنماط فيما يتعلق بصحتنا، وعواطفنا، وانتباهنا، ونزعاتنا، وغيرها، نحن نزخر إذًا بالبيانات، القضية هي كيف نحصل على تلك البيانات بطريقةٍ موثوقةٍ ومتواصلة”.

Scan the code