تحقيق: محمد الماحي
يتورط عدد من الأصدقاء وزملاء العمل في قضايا جنائية يجرّمها القانون، بسبب نقد بعضهم لبعض، بعبارات تتحول إلى إساءة بحسن نية، لعدم معرفتهم بالقوانين الضابطة للنقد والنصح.
قضايا عدّة سجلتها محاكم الدولة، أخيراً، بعد نقاش بين أصدقاء وأقارب وزملاء عمل، يعبر عن عدم رضاهم لأفعال وأقوال بعضهم تجاه موقف معين. وبحسب قانونيين، يتمثل الخطأ في تجاوز بعضهم حدود النقد وتقديم النصح المقبول، إلى الإساءة وتقليل الشأن، باستخدام ألفاظ يرونها اعتيادية ولكنها تندرج ضمن السبّ والتشهير، مثل وصف صديق لصديقه بأن «أفعاله لا تصدر إلّا عن شخص مريض». أو وصف زميل لعمل زميله بأنه «زبالة»… وما إلى ذلك من الألفاظ الدارجة، التي تتكرر في أماكن العمل من دون إدراك عواقبها.
يرى خبراء اجتماعيون، أن كثيراً من تلك القضايا سهلة، ويمكن تفاديها من دون اللجوء إلى القضاء، فيما لو اختار أصحابها التروي والحكمة، وهي مظاهر تبيّن تدهور العلاقات الاجتماعية في المجتمع وطغيان الجانب المادي.
توعية المجتمع
ويؤكد القانونيون لـ«الخليج»، أن النقد المباح هو إبداء الرأي في أي فعل أوقرار، دون المساس بصاحبه، ويجب أن يحمل الصفة الإيجابية، ويبعد كل البعد عن الإهانة والتجريح. لافتين إلى أن هنالك فرقاً كبيراً بين أن يطرح أصحاب الرأي أفكاراً من أجل التصحيح ونقد المصلحة العامة، والتشهير والإساءة والسخرية.
وأشاروا إلى أن عقوبة السب العلني، وفقاً للمادة رقم 373 من قانون العقوبات الاتحادي، هي الحبس مدة لا تزيد على عامين، أو بالغرامة التي لا تتجاوز عشرين ألف درهم. مؤكدين ان طريقة تقديم النصح باتت تحتاج إلى توعية المجتمع بالقانون، عبر شرح مواده، والإضاءة عليها إعلامياً، لتصل إلى أكبر شريحة من الجمهور.
«الخليج» اطلعت على نماذج حية من تلك القضايا التي أحيل أصحابها إلى المحاكم، وقطعوا طريقاً قضائياً مرهقاً، بسبب تصرفات ظنوا أنها مجرد انفعالات عابرة. آخرها قضية شاب حاول نصح صديقه بموقف معين، لكن نصحه تضمن عبارة «ما يسوي هذه الأفعال إلّا مريض»، فعدّه الأخير سباً وإهانة. فرفع دعوى قضائية، حكم خلالها على المدعى علية بالغرامة. كما رفع المدعي دعوى مدنية، للمطالبة بالتعويض عن الضرر النفسي والمعنوي الذي تسبب فيه المدعى عليه. وقضت محكمة العين بإلزامه، بأن يؤدي إلى المدّعي 5 آلاف درهم، تعويضاً عن الأضرار المعنوية.
وفي قضية ثانية، فتح خمسيني بلاغاً بحق صديق عمره، لأنه وجه إليه كلمة محلية غير لائقة، ولم يرضها الأخير على نفسه. وتحول البلاغ إلى النيابة ثم المحكمة، وصدر حكم بدفع غرامة قدرها 10 آلاف درهم، بتهمة السب والقذف غير المباشر. وفي قضية أخرى فتح موظف بلاغاً بحق زميله في العمل، متهماً إياه بسبه، بعد مشادة كلامية بينهما، خلال مشاهدة مباراة لكرة قدم، وصف فيها المتهم المجني عليه، بأنه «تافه» و«سخيف»، فعدّها إهانة وتقليلاً من شأنه.
فهم خطأ
أكد عبيد الصقال، المحامي والمستشار القانوني، أن هنالك خلطاً شديداً بين النقد البنّاء والإساءة والسخرية، وهذا النهج قد أنتج فكراً وفهماً خطأ عند الكثيرين، عندما يستخدمون ألفاظاً يرونها اعتيادية، ولكنها تندرج ضمن السبّ والتشهير، ومن أغرب الجمل التي تنتشر أنك تسمع من يقول لك «هذه ليست إساءة، هذا مجرد رأي»، في محاولة للتخلص من الممارسة غير الصائبة للنقد الهدام. لافتاً إلى أنه من حق الجهة المتضررة من الإساءة، اتخاذ إجراء قانوني حيال المسيء، حتى لو حاول أن يكون ناصحاً، لأن التصرف يندرج في إطار السبّ والقذف.
يقول إن هناك مسارات واضحة يجب أن يلتزم بها الشخص، عند تقديم النصح والنقد البنّاء، وأهمها إبداء الرأي في أي فعل أوقرار، دون المساس بصاحبه. كما يجب أن يحمل الرأي الصفة الإيجابية، ويبعد كل البعد عن الإهانة والتجريح. ويضيف الصقال أن «المشرّع الإماراتي تصدى لهذه الجريمة في قانونَي العقوبات وتقنية المعلومات، إذ نصّ على أنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على عامين والغرامة التي لا تتجاوز 20 ألف درهم».
المصلحة العامة
يتفق المحامي والمستشار القانوني عبدالله الكعبي، مع ما سبق ويضيف إليه: «بعضهم لا يميز بين التعبير أو النقد الهادف إلى تحقيق المصلحة العامة، والنقد المتضمن الإساءة والتقليل من الشأن والتشهير، وهذا يحيل الكثير تحت طائلة المساءلة القانونية، بسبب عدم التمييز. مشيراً إلى أن القانون كفل لكل شخص الحق في التعبير عن رأيه، من دون الإساءة والسب والتشهير، والابتعاد عن ذكر الأشخاص والتدخل في خصوصياتهم. وقال إن تغاضي الكثير من الناس في أماكن العمل عن العبارات والتعليقات المسيئة بحقهم، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكنهم مقاضاة أصحاب هذه العبارات، لذا يجب على الجميع الانتباه قبل الحديث عن الآخرين بطريقة فيها احتقار وإهانة، أو تقليل من شأنهم، لأن هذا يضعهم تحت طائلة عقوبات جرائم السب والقذف والتشهير.
ويوضح الكعبي، أن القذف المستوجب للعقاب يعرف بأنه «كل قول يتضمن إسناد فعل، يعدّ جريمة يقرر لها القانون عقوبة جنائية، ويوجب احتقار المسند إليه عند أهل وطنه أو حرفته». مشيراً إلى أن معظم الذين ينتقدون بأسلوب غاضب متشنج، ويحاولون المسّ بكرامة الشخص، معتقدين أن ذلك يعني الانتصار عليه وإلجامه، ومعظمهم أيضاً يلجأون إلى النقد بلا مناسبة، لذلك يكون النقد في غير مكانه.
المسؤولية القانونية
اما الخبير التربوي مانع النعيمي، فيقول «خضع أفراد، خلال المدة الأخيرة، للمحاكمة على خلفية وصفهم آخرين، بكلمات مثل «أنت مريض» «تافه»، «سخيف». وعلى الرغم من إبداء مرتكبي مثل هذه السلوكيات حسن نيتهم، وتأكيدهم أنها جاءت عبر تقديم النصح والإرشاد، ولا تنطوي على رغبة فعلية في التقليل من شأن الآخرين، فإن جهات التحقيق لم تعفهم من المسؤولية القانونية».
وأشار إلى أنها قضايا عادية، ويمكن تفاديها من دون اللجوء إلى القضاء، فيما لو اختار أصحابها التروي والحكمة، وهي مظاهر تبين تدهور العلاقات الاجتماعية في المجتمع، وتكشف درجة التدهور الذي قضى على الأعراف والتقاليد المحافظة على وحدة المجتمع، حيث كانت الخلافات والصراعات التي يعيشها الأصدقاء وزملاء العمل، تحلّ بينهم، بعد تدخل بعض العقلاء والكبار، من دون اللجوء إلى القطيعة والمشاحنات، واللجوء للقضاء.
النصح والإرشاد
يؤكد محمد راشد رشود، الخبير التربوي والاجتماعي، أهمية توعية أفراد المجتمع بكيفية التواصل مع الآخرين، وإبداء النصح والإرشاد، من دون التعرض للمساءلة القانونية. لافتاً إلى أن هنالك فرقاً كبيراً بين النقد البنّاء، والتطاول المسيء، لأن النقد الهادف علم له أسلوبه وقوانينه وقواعده المهمة، التي تجعل منه ضرورة حياتية في أي مجتمع، فهو خطوة متقدمة للأمام، يساعد في البناء، وتصويب الأخطاء، أما الإساءة التي يعتقد أصحابها أنهم يمارسون النقد لإصلاح الآخر، عبر كلمات مهينة وقبيحة، فهي أمر سلبي بل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا يعفي من ذلك عدم معرفة كثر بالقوانين المطبقة في الدولة، التي تجرم جميع تلك الأفعال.
ويقول رشود من ينتقد للمصلحة العامة يحرص على تأكيد الإيجابيات وتوضيح السلبيات، ومن ينتقد لهدف آخر، فإنه لا يسعى إلّا إلى لفت الانتباه إلى الجانب السلبي فقط، والنقد البنّاء يركز على الفكرة، وله رأي موحد عنها. داعياً إلى الوقوف في وجه هذه الممارسة الخطأ للنقد، التي تؤدي إلى خوف الناس منه، لدرجة أنك إذا قدمت نقداً موضوعياً بصياغات سليمة من دون تجريح ولا اتهام ولا سخرية، يرفضها بعضهم، رغم أن مقصودك فيها ليس إلّا التطوير.