فتحت اقتحامات المصارف في لبنان الجمعة فصلاً جديداً في التعامل بين المودعين والمصارف، لا يمكن لأحد التكهن بنهايته.
تلك الاقتحامات بدأت مع عبد الله الساعي في يناير الماضي، حين استطاع تحصيل 50 ألف دولار أميركي من وديعته في “بنك بيروت والبلاد العربية”.
الساعي قال لـ”الشرق” إنه خسر أكثر من 250 ألف دولار بسبب “التعميمات العشوائية” لمصرف لبنان، مضيفاً أنه عندما جاءت “بدعة صيرفة ضخ دولار أميركي من قبل مصرف لبنان، بسعر منافس للسوق الموازية، أخذت قراراً بأنني لن أتخلى عن قرش مما تبقى من أموالي لهذه السلطة الفاجرة”.
الساعي أمضى 17 يوماً في الاحتجاز قبل الإفراج عنه بدعم من محامي “رابطة المودعين اللبنانيين”، وعن فترة توقيفه، قال: “أنا لست مجرماً، والتعامل معي جاء في الأطر القانونية، كنت أعلم مسبقاً أنني قد أتعرض للسجن، ومع ذلك لم أتردد للحظة”.
وتابع: “رأيت في عيون وتعامل أفراد قوى الأمن نوعاً من التعاطف، أكاد أجزم أن هؤلاء العسكريين كانوا يحترمونني لما فعلت، لأنهم يعلمون أنني لست مجرماً في هذه القضية، إنما المصارف والسلطة السياسية هم المجرمين”.
وتم اقتحام سبعة بنوك في المجمل منذ الأربعاء في لبنان، حيث تمنع البنوك التجارية معظم المودعين من السحب من مدخراتهم وحساباتهم الشخصية منذ تفجر أزمة اقتصادية قبل ثلاث سنوات، مما جعل العديد من السكان غير قادرين على دفع تكلفة أساسيات الحياة.
بداية الأزمة
منذ أكتوبر 2019 يرزح اللبنانيون تحت أزمة اقتصادية غير مسبوقة، أدت إلى احتجاز أموالهم في المصارف، واستنزافهم من قبل المصارف التي تحصنت وراء تعميمات عشوائية من قبل مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة.
ورغم أن المواطن اللبناني يستطيع الحصول على جزء من أمواله العالقة في المصارف، ولكن ضمن سقوف سحوبات معينة، إلا أنه فقد غالبية قيمتها بين الـ”هيركات” والـ”كابيتول كونترول”، وغيرها من العبارات الاقتصادية العصية على فهم المواطن العادي، فضلاً عن التراجع الحاد في قيمة صرف العملة أمام الدولار.
وتفرض المصارف اللبنانية منذ بداية الأزمة التي صنّفها “البنك الدولي” ضمن الأسوأ في العالم منذ 1850، قيوداً مشددة على سحب الودائع تزايدت شيئاً فشيئاً، حتى أصبح من شبه المستحيل على المودعين التصرّف بأموالهم، خصوصاً تلك المودعة بالدولار الأميركي.
وتقل قيمة السحوبات بالليرة اللبنانية، إذ فقد سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار أكثر من 95 بالمئة من قيمته منذ 2019، واقترب من مستوى منخفض جديد عند حوالي 38 ألفاً مقابل الدولار هذا الأسبوع.
ويجيز التعميم رقم “158” الصادر عن مصرف لبنان، للمودع سحب 400 دولار أميركي نقداً، و400 أخرى على سعر صرف 12 ألف ليرة لبنانية، يحصل عليها المواطن بصورة أموال في بطاقة ائتمان، يمكن استخدامها بالشراء فقط.
يشار إلى أن سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق الموازية تخطى 38 ألف ليرة الجمعة.
وكانت السلطات اللبنانية بطيئة في تمرير الإصلاحات التي قد تمكنها من الوصول إلى ثلاثة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي ستكون مقدمة لتخفيف الأزمة، بحسب وكالة “رويترز”.
ومن بين القوانين المنتظرة قانون ضوابط رأس المال، الذي ما زال قيد المناقشة من قبل البرلمان. وفي غيابه، فرضت البنوك قيوداً أحادية على معظم المودعين.
ذروة الاقتحامات
ومنذ يناير، تكرر اقتحام المصارف بعمليات متفرقة، قبل أن يبلغ ذروته في 16 سبتمبر، بعدما شهدت البلاد اقتحام 5 أفرع للمصارف على الأقل في يوم واحد.
وفي صباح الجمعة، اقتحم رجل مسلح تم تعريفه باسم عبد الرحمن سوبرة إلى “بنك لبنان والمهجر” (بلوم) في منطقة الطريق الجديدة في بيروت للمطالبة بمدخراته، حسبما قال المصرف في بيان أرسله إلى “رويترز”.
وسلّم الرجل مسدسه لقوات الأمن في وقت لاحق، لكنه قال لـ”رويترز” إنه بقي متحصناً داخل الفرع حتى الليل، وواصل التفاوض مع مسؤولي البنك لسحب مدخراته التي تبلغ 300 ألف دولار نقداً.
وغادر سوبرة البنك بعد ذلك، من دون أن يحصل على أي أموال، وذلك بناء على اتفاق بوساطة أحد رجال الدين المؤثرين في المنطقة، وشخصية سياسية واجتماعية من المنطقة هي بلال بدر، رئيس نادي الأنصار أحد أعرق نوادي كرة القدم اللبنانية. ولم يتم احتجاز سوبرة.
وتعالت على مدار اليوم الهتافات المساندة لسوبرة من جانب حشد كبير خارج البنك، ومن بينهم بسام الشيخ حسين الذي لم يحتجز هو الآخر بعدما نفذ اقتحاماً لبنك في أغسطس ليحصل على مدخراته، إذ أسقط المصرف الاتهامات ضده.
وقال حسين الذي حصل على حوالي 30 ألف دولار من مدخراته التي تبلغ 200 ألف دولار، في تصريح لـ”الشرق”، إن هذه الحوادث ستتكرر “طالما هناك أموال في الداخل”، مضيفاً أن “الناس ليس لديها أي حل آخر”.
وانتهت عمليات الاقتحام الأربع الأخرى الجمعة بحصول منفذيها على ما مجموعه 60 ألف دولار من أرصدتهم. وتم القبض على معظم منفذي عمليات الاقتحام، فيما اختبأ أحدهم.
وفي الحادث الأول الجمعة، قال مصدر أمني لوكالة “رويترز” إن الرجل الذي اقتحم “بنك بيبلوس” في مدينة الغازية جنوب لبنان، تمكن من استرداد جزء من أمواله قبل اعتقاله، مضيفاً أنه من المعتقد أن السلاح الذي كان بحوزته لعبة.
في حادث آخر، دخل جواد سليم مسلحاً بمسدس خرطوش أحد فروع “بنك لبنان والخليج” في منطقة الرملة البيضاء في بيروت، لاستعادة مدخرات تقدر بنحو 50 ألف دولار، حسبما قال موظف في البنك للوكالة.
وقال شقيقه لوسائل إعلام محلية إنه بحلول الليل، اتفق مع البنك على المغادرة ومعه 15 ألف دولار، وشيك بقيمة 35 ألف دولار.
واحتجزته قوات الأمن لكن لم يتضح على الفور ما هي التهم التي ستوجه إليه.
من جهته، قال محمد إسماعيل الموسوي لوكالة “رويترز” عبر الهاتف إنه اقتحم “البنك اللبناني الفرنسي” بمسدس مزيف، ونجح في الحصول على 20 ألف دولار نقداً من حسابه، مشيراً إلى أنه “سيختبئ”.
وفي الواقعة الخامسة بعد ظهر الجمعة، قال مصدر في قطاع البنوك لوكالة “رويترز”، إن رجلا أطلق النار في أحد فروع “بنك البحر المتوسط” (ميد) بينما كان يسعى للوصول إلى مدخراته.
وأوضح المصدر أن الرجل هو أحد أفراد قوات الأمن اللبنانية، ولم يكن هناك أي بلاغات عن إصابات، مضيفاً أنه تمكن من الحصول على 25 ألف دولار من حسابه.
وقال المصدر إن الرجل سلم المال لوالدته، واعتقلته قوات الأمن بعد ذلك.
وجهة نظر القانون
وغالباً ما يقوم المقتحم بتسليم نفسه من دون مقاومة إلى الأجهزة الأمنية، فور حصوله على وديعته كاملة أو جزء منها. وهنا يطرح سؤال يتمثل في كيفية تعاطي القانون مع هذه الحالات؟
المحامي لؤي غندور شرح لـ”الشرق” أن “القانون يجرم استيفاء الحق بالذات، ولكن ذلك في حال كان صاحب الحق قادر على استيفاء حقه عن طريق القضاء. ولكن الأخير عاجز ومعتكف عن القيام بواجباته”، مشيراً في الوقت ذاته إلى ما اعتبره “تآمر” بين المصارف والقضاء، بحجة “أنه لا يوجد أي صاحب مصرف وراء القضبان في وقت تبخرت 165 مليار دولار من الودائع، دون محاسبة أي شخص”.
ويحق للنيابة العامة التحرك ضد المقتحمين، حتى لو لم يتم رفع أي شكوى ضد المقتحم. ونظراً إلى وجود سلاح مزيف لدى بعضهم، فإن غندور يشرح أن “القانون يعاقب على احتجاز رهائن وترويعهم، بصرف النظر عمّا إذا كان هذا السلاح مزيفاً أو لا”.
المصارف “تواجه”
وأدى مسلسل الاقتحامات إلى إعلان “جمعية مصارف لبنان” الإقفال خلال 19 و20 و21 سبتمبر الجاري، “استنكاراً وشجباً” لما حصل، و”بغية اتخاذ التدابير التنظيمية اللازمة”.
أحد مؤسسي “رابطة المودعين”، الباحث نزار غانم، رأى أن خطوة الإضراب “غير مجدية”، معتبراً أنها ستزيد من نقمة المودعين والمواطنين اتجاه المصارف. وتساءل: “ما الذي سيحصل بعد فتح المصارف أبوابها؟”
وعن التعطيل الذي يمكن أن تلجأ إليه المصارف بالإضراب المفتوح، قال غانم: “سنقوم بإجبارها على فتح أبوابها، هذه المصارف حتى الآن لم تتحمل أي مسؤولية تجاه الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن سياساتها العشوائية”.
وتابع أن المودع “لم يبدأ بالعنف، ولكن بعد ثلاث سنوات من تجاهل مطالبه المحقة، والتقاعس عن وضع أي خطة اقتصادية واضحة لاسترجاع مدخرات المودعين، وصلنا إلى هذه الفوضى”.
وأكد غانم أن الرابطة “لا تشجع على العنف، إلا أننا سندعم بكل الأشكال القانونية حقوق المودعين، ولدينا شبكة من المحامين داخل الرابطة وأصدقاء لنا مستعدون للدفاع عن أي مودع ومؤازرته في حال توقيفه”.
وأشار إلى أن الحل الوحيد هو “خضوع المصارف لشروط صندوق النقد الدولي، والبدء بتنفيذ عملية إعادة الهيكلة، والبحث بحوار جدي مع مهل واضحة تعيد للمودعين حقوقهم”.
تشدّد أمني
وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي، اعتبر بعد اجتماع لمجلس الأمن المركزي، أن حوادث اقتحام المصارف “تهدم النظام وتؤدي إلى خسارة بقية المودعين لحقوقهم”.
وشدد على أن اجتماع المجلس “ليس الهدف منه حماية المصارف بل حماية البلد وحفظ النظام وحماية حقوق المودعين”، ملمحاً “إلى أجندة من وراء التحركات”.
المولوي أكد أن مدعي عام التمييز وممثل النيابة العامة التمييزية أبلغاه أنه ستكون هناك “إشارة خطية صباح الاثنين بشأن هذا النوع من التصرّفات”.
المحامي لؤي غندور، لم يستغرب الكلام الصادر عن وزير الداخلية، إلا أنه تساءل “أليس من المخجل أن نرى قضاءً معتكفاً ضد حقوق المواطنين، يحضر للتحرك ضد مَن يطالب بحقه؟”.
“ليس أزمة مالية فحسب”
الخبير الاقتصادي والمصرفي اللبناني نسيب غبريل، لفت في تصريح لـ”الشرق”، إلى أن ما يعانيه لبنان “ليس أزمة مالية فحسب، وإنما هي أزمة سوء استخدام السلطة السياسية، والتدخل السياسي بالمرافق العامة ذات الطابع الاقتصادي، وسوء إدارة القطاع العام، وسوء إدارة للأزمة”.
وتابع أن “عدم الالتزام بالمهل الدستورية، وعدم التعاون مع صندوق النقد الدولي إشكالية كبرى تؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية”، مضيفاً: “المودع يريد إجابات عن 3 أسئلة: ما مصير ودائعه؟ ما الطريقة التي سيستردها بها؟ وبأي مهلة زمنية سيتمكن من التصرف بها؟”.
واعتبر أن الإجابة عن هذه الأسئلة ستؤدي إلى “تطمين المودع، واستعادة الثقة بالاقتصاد”، داعياً “السلطة السياسية والمصارف إلى تحمل مسؤوليتها تجاه المودعين، لأن استعادة الثقة هي الخطوة الصحيحة على طريق الحل”.
اقتحامات شعبية
ونظراً إلى أن غالبية الشعب اللبناني يعاني من نفس الأزمة مع المصارف، باستثناء ما ندر، حازت عمليات الاقتحام على تأييد شعبي في الأوساط اللبنانية، وصولاً إلى دول أخرى مثل مصر والسودان.
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات مؤيدة لعمليات الاقتحام، أبرزها “ما أُخِذَ بالقوة لا يُسترَد إلاّ بالقوة”، في إشارة دعم لمقتحمي المصارف الذين نالوا جزءاً من مدخراتهم.
الكاتب الاقتصادي عماد شدياق لفت في تصريح لـ”الشرق”، إلى خطورة تلك العبارات، معتبراً أنها قد تؤدي إلى “فوضى خطيرة قد تؤثر سلباً على باقي المودعين”.
واعتبر أن الحل الوحيد، في ظل غياب الدولة عن طرح خطة متكاملة لإعادة الودائع، “يبقى بالحوار بين المودعين والمصارف للوصول إلى حل يرضي الجميع”.