الكابوس الذي كان يهرب منه اللبنانيون منذ أشهر، تحول حقيقة من خلال “دولرة أسعار البنزين”، فبدءاً من الأسبوع الحالي أوقف مصرف لبنان دعم استيراد المحروقات، بالتالي فتح الباب أمام تحديد السعر بالدولار. هذا القرار لن يكون محطة عابرة في مسار الانهيار، إنما سيشكل عاملاً مؤثراً في المعاناة التي يعيشها المواطنون خلال الفترة المقبلة، وسيزيد أعباء الإنتاج والتوزيع والانتقال.
البنزين ليس لكل الناس
“مقطوع من البنزين” عبارة بدأت تتكرر على لسان اللبنانيين، كيف لا وقد أصبح سعر صفيحة البنزين (20 ليتراً) يوازي الحد الأدنى الرسمي للأجور، وينعكس ذلك شعوراً بالخجل على وجوه الناس الذين لا يتأخرون في التأفف وإلقاء اللوم على المسؤولين والقوى السياسية. واليوم، على أعتاب انطلاق العام الدراسي الجديد، بات عبء نقل الأبناء إلى المدارس هاجس الأسر، فقد أصبح بملايين الليرات، وتؤكد إحدى الأمهات أنها نقلت أبناءها إلى مدرسة قريبة من المنزل بهدف التوفير لأن “بدل النقل بات يساوي الدخل الشهري للأسرة”.
هذه الواقعية التي يتعامل بها بعض الأهالي لا يستوعبها آخرون، وتحديداً عندما يقابلهم أصحاب المحال بحجة أن “الأسعار ارتفعت بسبب زيادة بدلات النقل”، وهذا الأمر شعر به أبناء مناطق الأرياف الذين بدأوا يلمسون ارتفاعاً مفاجئاً في الأسعار لأن دولرة البنزين انعكست سلباً على أكلاف نقل المنتجات والبضائع.
دولرة البنزين ليست كافية
ينظر أصحاب محطات الوقود والشركات إلى “دولرة أسعار البنزين” على أنها خطوة منتظرة، فالوقود هو السلعة الأخيرة التي تتم دولرتها في بلد أصبحت كل المتاجر تحدد أسعار السلع فيها بالدولار، بحسب جورج البراكس (نقيب أصحاب المحطات)، وذكر أن رفع الدعم جاء بصورة تدريجية لأن مصرف لبنان لم يعد يملك الدولارات الكافية للاستمرار في الدعم، ويشير البراكس إلى أنه قبل الانتخابات النيابية، في مايو (أيار) الماضي، طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من حاكم المصرف المركزي تأجيل القرار بصورة مؤقتة، ومنذ شهرين، بدأ المصرف تخفيف الدعم تدريجاً بمعدل 15 في المئة أسبوعياً، إلى أن وصلنا مطلع الأسبوع الحالي، الإثنين الـ 12 من سبتمبر (أيلول)، إلى الرفع التام للدعم، ما يعني وجوب تسعير البنزين وفق سعر دولار السوق الحرة بعد أن تم تحرير الغاز والمازوت بالكامل سابقاً.
السوق السوداء ملاذ البنزين
الوجه الآخر للقرار هو ترك عبء تأمين الدولارات بالكامل على المحطات والشركات لاستيراد البنزين، وبما أن مصرف لبنان توقف عن تأمين حصته من الدولارات وفق منصة “صيرفة”، فإن السوق السوداء ستكون ملجأ من أجل تأمين الدولارات.
ولا يخفي البراكس أن المحطات تفضل تقاضي سعر البنزين بالدولار مباشرة من الزبون، لأنه يحل مشكلة تأمين الدولار من السوق الحرة، كما يحد من المخاطر والخسائر بفعل التقلب السريع لسعر الدولار، لأن “صاحب المحطة سيضطر إلى الركض في اتجاه الصراف من أجل تبديل الليرات بالدولار، وبما أن السوق متقلبة والأسعار في ارتفاع مستمر فإنه قد يخسر في آخر النهار”.
من أجل التخفيف من وطأة تفاوت الأسعار، أعلنت المديرة العامة للنفط أورور فغالي أن وزارة الطاقة على استعداد لإصدار أكثر من جدول تركيب أسعار في اليوم عندما يطرأ تقلب كبير في أسعار الصرف.
لا يوافق البراكس على نجاعة هذا الطرح لأن “جدول تركيب الأسعار الذي تصدره المديرية يسبب بلبلة في السوق، وأحياناً الخسارة للمحطات”، ويعطي مثالاً على ذلك “الجدول الصادر صباح الثلاثاء الذي اعتمد سعر صرف 35700 ليرة للدولار، فيما كان الدولار في الحقيقة 36200، مما يتسبب بخسارة جزء من العمولة التي تتقاضاها المحطات”، وفيما يتسبب تعدد الجداول خلال النهار بمزيد من البلبلة، يدعو البراكس الناس إلى “تخيل مشهد سعر قبل الظهر وآخر بعد الظهر، وحال المحطات التي باعت صباحاً بخسارة”.
وقد لاحظ المواطنون خلال الفترة الماضية، تمنع كثير من المحطات عن بيع البنزين في انتظار الجدول الجديد للأسعار أو دولرة البنزين، ويأسف البراكس لذلك لافتاً إلى أن “تحرير القطاع بالكامل قد يخلق منافسة شديدة بين الشركات، ويكون ذلك لمصلحة المواطن”، ويتوقع أن يكون لتأثير دولرة البنزين أثر في ارتفاع سعر صرف الدولار الذي يتخوف أن أحداً لن يتمكن من اللحاق به من خلال خطوات عشوائية، ما سينعكس سلباً على حياة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
قطاع النقل يحتضر
تأثر قطاع النقل مباشرة بقرار دولرة البنزين، فمن جهة، هناك السائقون العموميون الذين يتخذون سيارات الأجرة مصدر رزق لهم، ومن جهة أخرى اللبنانيون الموظفون الذين لا يمتلكون سيارة أو أولئك الذين لا طاقة لهم على تأمين نفقات الواحدة منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقر نقيب السواقين في الشمال شادي السيد بأن القطاع يعيش مرحلة الفوضى “حارة كل مين إيدو إلو”، فهناك فوضى المنافسة غير المشروعة من خلال السيارات المزورة والخصوصية، و”التوكتوك” وغيرها، وارتفاع أسعار البنزين والدولرة المطلقة. ويقول السيد “تخيل أن سائقاً يتقاضى ليرات يتوقف عند محطة البنزين فيطلب منه الدفع بالدولار”.
وهذا المشهد يؤكده أحد السائقين الذي يروي أنه أثناء عودته من بيروت يتوقف في محطة البنزين فيطالبه العامل في المحطة بالدفع بالدولار أو لا وقود، فما كان منه إلا أن أقفل سدادة البنزين ومضى.
يسأل السيد “كيف لنا أن نحدد بدل النقل؟ هل هناك طاقة للمواطنين على الدفع بالدولار؟”، مؤكداً أنه بدءاً من الإثنين المقبل هناك توجه لإعلان التصعيد العام لأن قطاع النقل لم يعد بمقدوره احتمال الوضع السيىء، ويأسف لأنه لم تبذل أي خطوة لإنصاف السائقين “سوى الوعود”، فهم لم يستفيدوا من دعم المحروقات ولا من التقديمات الاجتماعية، لأن تسعيرة الضمان الاجتماعي ما زالت وفق سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، ولم يحصلوا على بطاقة الدعم للأسر الأكثر فقراً.
كيف السبيل لبلوغ المدارس
نهار الخميس الـ 15 من سبتمبر، يبدأ رسمياً العام الدراسي الجديد في التعليم الرسمي وفق حالة من السخط في أوساط مكونات القطاع التربوي. من جهة، الأهالي عاجزون عن تأمين الاحتياجات الأساسية لأبنائهم، وقد جاءت دولرة البنزين لتزيد أعباءهم، ومن جهة أخرى، كيف يذهب الأساتذة إلى المدارس وهم الذين باتت رواتبهم لا تغطي كلفة النقل؟، يشعر هؤلاء أنهم يعملون بالمجان ولم يحصلوا حتى اللحظة على بدلات النقل للعام الدراسي الماضي.
تجزم رئيسة رابطة التعليم الثانوي ملوك محرز، أن الرابطة لم تترك الأساتذة لوحدهم في مواجهة مصيرهم، وتلفت إلى أن هناك مساعي للضغط من أجل “إقرار قانون يمنح الأستاذ سبعة ليترات بنزين يومياً من أجل تغطية أعباء النقل”. هذا الاقتراح يجنب الأساتذة تأرجح الأسعار التي قد تنجم عن تقلب الأسعار والارتفاعات المفاجئة لسعر الدولار في السوق الحرة.
وتتطرق محرز إلى تحديد دوام الأساتذة بثلاثة أيام دوام على غرار بقية موظفي القطاع العام “لأنه لا يجوز أن يستمر الأساتذة وحدهم بالدوام الكامل”، مضيفةً “هناك مطلب بإعادة النظر في النصاب، أي عدد حصص التعليم التي يجب أن يؤديها أساتذة الملاك أسبوعياً، وكذلك العمل مع المركز التربوي للبحوث والإنماء من أجل إعادة النظر في المناهج التعليمية لمختلف المواد”.
وتضع محرز معاناة الأساتذة في سياقها العام “نحن أمام حالة انهيار غير مسبوقة”. وتتخوف من “عدم اتخاذ خطوات إيجابية لإنصاف الأساتذة”، إذ من شأن ذلك تعريض العام الدراسي للخطر”.