لم يكن يتخيل الإمام موسى الصدر عندما استحصل على مرسوم جمهوري يسمح بإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي في شباط 1967، أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه المجلس الذي أراده “منتدى يضم كل مكونات الشيعة في لبنان”، مسرحاً للتجاذبات والصراعات الحزبية، والتنافس على السلطة، أو منبراً للتهجم على شخصيات دينية لا تدور في فلك القائمين على المجلس، ولو أن بعضهم قد يستحق ما هو أكثر من “نزع صفة”.
أمس، أصدرت هيئة التبليغ الديني في المجلس الشيعي بياناً، “بناء على توصية لجنة التقييم والتنسيق بمكتب شؤون الحوزة العلمية، قرر فيه اعتبار 15 شخصية “دينية” غير مؤهلين للقيام بالإرشاد والتوجيه الديني والتصدي لسائر الشؤون الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية، إما للإنحراف العقائدي أو للإنحراف السلوكي أو للجهل بالمعارف الدينية وادعاء الانتماء للحوزة العلمية”.
انتشر البيان بشكل كثيف، ربما بسبب ورود إسم الشيخ ياسر عودة على رأس “المطلوبة عمامتهم”، فصدر بيان لاحق عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى جاء فيه: “إن البيان الصادر عن هيئة التبليغ الديني لا يعبٌر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولم يطّلع عليه رئيس الهيئة العليا للتبليغ الديني نائب رئيس المجلس سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب بغض النظر عن مضمونه، واعتباره كأنه لم يصدر”.
الخطيب على علم.. ولكن
أثار هذا التباين داخل المجلس استغراباً أكبر من مضمون بيان هيئة التبليغ. وحسب معلومات “المدن”، فإن الشيخ علي الخطيب كان على علم مسبق بمضمون البيان وأسماء “المشايخ” وطبيعة القرار، لكن صدور القرار من دون أن يُذيّل بتوقيعه جعله يتبرأ مما صدر بسبب حساسيات قائمة داخل أركان سلطة المجلس الشيعي، تلت وفاة الشيخ عبد الأمير قبلان، من دون أن يعني ذلك قبوله أو رفضه للمضمون، لذلك كان واضحاً في بيانه القول “بغض النظر عن المضمون”.
رواية أخرى يتم التداول بها داخل أروقة المجلس الشيعي، تقول بأن الشيخ الخطيب نشر بيانه بعد رد الفعل السريع والواسع على مواقع التواصل الإجتماعي، في محاولة لاستيعابه، لكن هذه الرواية ضعيفة ولا تجد ما يلزم من المعطيات لدعمها.
قرار حسم رئاسة المجلس الشيعي يبدو مؤجلاً، بسبب التباين بين حزب الله وحركة أمل، ولو أن اتفاقاً حصل قبل الانتخابات النيابية على فتح هذا الملف بعد الاستحقاق الانتخابي. لكن لم يحصل ذلك، وهو ما ألقى بظلاله على تركيبة المجلس وآلية العمل فيه، حيث تكثر الصراعات، تقول مصادر من داخل المجلس الشيعي، مشيرة إلى أن المجلس اليوم لم يعد نفسه الذي كان قائماً منذ سنتين على الأقل.
صراع المناصب
لا يُريد مدير عام التبليغ الديني الشيخ عبد الحليم شرارة، أن يكون رئيساً للمجلس الشيعي. وهو أبلغ الرئيس نبيه برّي بذلك منذ زمن، تقول المصادر عبر “المدن”، أما نائبه الشيخ علي بحسون فهو من المرشحين البارزين للمنصب، وهو من المقربين من عين التينة. وحسب المصادر، يمكن من هنا فهم طبيعة الصراع مع الشيخ علي الخطيب المرشح للرئاسة، والمقرب من حزب الله. وهذا الصراع الرئاسي الذي يطفو على السطح بين الحين والآخر، قائم منذ بداية العام 2022، كما حصل خلال فترة تولي الدكتور حسن اللقيس رئاسة الجامعة الإسلامية، وما رافقها من صراعات ومناوشات مع الخطيب، أو كما يحصل اليوم. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال، حسب المصادر، أن قرار هيئة التبليغ كان سليماً.
حسب المصادر، فإنه ينبغي أولاً التمييز بين الأسماء التي وردت في بيان الهيئة. إذ لا يمكن وضع من لديه خلفيات سياسية متمايزة عن الثنائي في الخانة نفسها مع من لديه شبهات اتجار بالمخدرات، أو لديه فضائح جنسية. وبالتالي، المبدأ الأساسي يقول بأن كل حالة من الحالات يجب أن تحظى بوضعها الخاص والاهتمام بها لوحدها، والشرح لجمهور الشيعة أسباب اتخاذ قرار كهذا، وإلا ستكون النتيجة ما شاهدناه خلال الساعات الماضية من هجوم على المجلس ودفاع عن الأسماء الواردة بالقرار، ولو أن أكثريتها غير معروفة للعموم.
ثانياً، تشدد المصادر على أن سياسة القمع لم تكن يوماً منهج مؤسس المجلس الشيعي الذي يُفترض أن يكون مجلساً لكل أبناء الطائفة من كل جهة وتفكير، رجال الدين وغير رجال الدين، والمثقفين وأصحاب الرؤى والفكر الرشيد، ليكون مكاناً لتبادل الأفكار لتطوير الطائفة، كجزء من وطن نهائي لجميع أبنائه، لا أن يتحول إلى ساحة صراع حزبي بين طرفين، يؤدي بنهاية المطاف إلى بلبلة مماثلة. فعلى سبيل المثال، الشيخ ياسر عودة، فإن كان ضالاً فليُكشف ضلاله الديني، أما إن كان الهجوم عليه لأسباب سياسية، فلم إدخال العمامة والدين؟ فهل فرُغ المجلس من أصحاب القدرات على مواجهة خطابه بالخطاب؟
ضربتان بيوم واحد
من أكثر المشاهد المسيئة للشيعة والحزبين الأساسيين في الطائفة كانت فيديوهات الاعتذار التي تصدر عن مواطنين شيعة انتقدوا قياداتهم. فما يُنشر على أنه “نكتة قبل السحسوح وبعده”، يشكل إساءة فاضحة للطائفة ككل، ويوم الأربعاء شهد ضربتين معنويتين في هذا السياق، الأولى من عين قانا التي تعاني انقطاع الطاقة، والتي شهدت هجوماً واعتذاراً من قبل أحد أبنائها، والثانية من طريق المطار، من المقر الأول للشيعة في لبنان.
الضربة الأولى، لا شكّ تخلق الحقد في نفوس المعتذرين وأهلهم وأحبائهم ومحيطهم، والضربة الثانية تؤكد اتهامات البعض للقيادات الشيعية باستسهال إلقاء تهم التخوين على كل المختلفين معهم، وعدم تقبل الرأي الآخر، علماً أن الإمام موسى الصدر الذي بنى النهضة الشيعية في لبنان كان أبعد ما يكون عن هذه الصفات.
ربما لا يُدرك القيمون على المجلس الشيعي أن تحويل المجلس إلى ساحة تصفية حسابات من شأنه أن يضر الطائفة ككلّ، وأن قرارات كهذه تُفيد “المتهمين” وتزيد من شعبيتهم. فكيف إن ترافقت مع ما حصل من إظهار للخلافات إلى العلن؟