هذا المقال بقلم الدكتور حبيب الملا، الشريك المدير، مكتب حبيب الملا ومشاركوه. الآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
كتب الدكتور الفاضل والصديق العزيز عبد الخالق عبدالله مقالا بعنوان من هو الإماراتي؟ وقسّم الدكتور في مقاله المجتمع إلى قسمين: قسم أسماه محافظًا يرغب في الإبقاء على قِيم راسخة (أظنه يقصد بالية) وبين تيار “حداثي ومدني مُرحِب بالجديد دون خشية على الهوية الوطنية”. ويرى الدكتور في مقاله أن تعريف الإماراتي يكون بالولاء والعطاء وبحكم الانتماء الجغرافي وأن هذه العوامل هي “دون غيرها” تشكل ثوابت الهوية الوطنية.
وكنت قد انتويت الرد على مقال الدكتور العزيز إلا أن المشاغل جرفتني حتى جاء مقال الأخ ناصر الشيخ ردًا على مقال الدكتور فانصرفت عن الكتابة. ولقد جاء مقال الأخ ناصر موضوعيًا في الطرح مسنودًا بما يدعمه فلقد استند في تعريفه للهوية على التعريف الرسمي الذي أوردته وزارة الثقافة والشباب على الموقع الرسمي للحكومة الاتحادية بوصفها “نظاما من القيم الاجتماعية والأخلاقية المرتبطة بأسلوب حياة الناس في الماضي والحاضر والمستقبل”. ورأى أن هوية الفرد لا تنفصم عن هوية الدولة التي يحددها الدستور في المادة 6 بالنص على أن “الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد … ولغة الاتحاد الرسمية هي اللغة العربية”. ويرى أن المجتمع الإماراتي لم يكن منغلقا بل تطور في عاداته وتقاليده متناهيا مع مدنية الدولة وحداثتها.
كما كتبت الدكتورة عائشة النعيمي مقالا في جريدة الخليج انتقدت فيه خطورة الطرح الذي ذهب إليه الدكتور عبد الخالق. وذكرت الدكتورة فى مقالها “لن نكون إيجابيين كأفراد نحمل مسؤولية وطنية إذا ذهبنا ولو بشكل غير مباشر إلى تفكيك العلاقات الاجتماعية الوشائجية التي تعايش معها أهل الإمارات بسماحة وقبول اجتماعي تاريخي.”
وكان يمكن أن يقف الأمر عند هذا الحد لولا أن الدكتور عبد الخالق رد بمقال آخر. وجاء المقال الثاني للدكتور دون أسانيد علمية رصينة، ولربما استعجل في الرد فغلبه طابع الانفعال.
ومن باب المشاركة في هذا الموضوع الحيوي والمهم أردت أن أُدلى بدلوي فيه.
ابتداء فإن مفهوم الهوية الثقافية يعد قضية إشكالية، فهي محدد، وبشكل حاسم، لطبيعة العلاقة مع العالم الداخلي و الخارجي؛ فبناءً على التصورات الاعتقادية حولها يتحدد مسار الجماعة وتعاطيها مع الحياة الداخلية للذات ومع الآخر في ذات الوقت. وهي بهذا المفهوم أمر بالغ التركيب يتأسس ويبنى في كل وقت وحين في إطار علاقات تاريخية واجتماعية وثقافية ولا ينبغي اعتباره معطى جاهزا وناجزا.
التعريف الذي ذهب إليه الدكتور عبد الخالق للهوية الإماراتية وجعلها قائمة على الولاء والانتماء إنما هو تعريف يجافي الصواب. فالولاء والانتماء هما من واجبات الهوية وليسا من مكوناتها. ويأتيان لاحقين على الهوية وليسا مشكلين لها. فالولاء والانتماء ليسا سببا لاكتساب الهوية ولكن من يكتسب الهوية الإماراتية يُفترض فيه الولاء والانتماء.
أما الانتماء الجغرافي فلا علاقة له بالهوية ولا يكفي لتحقيقها. ولو اعتمدنا على هذا المعيار لأخرجنا من دائرة الهوية الإماراتية كل إماراتي يعيش خارج الوطن ولدخل في التعريف كل من يحتويه الوطن وإن لم يتقاسم معه الأهداف والمصير. وخير مثال على عدم انضباط هذا المعيار أن اللبنانيين المغتربين والمنتشرين في بقاع الأرض يحتفظون بهويتهم اللبنانية ويعبرون عنها خير تعبير وإن لم يكونوا يعيشون ضمن النطاق الجغرافي للدولة اللبنانية.
ومن ناحية أخرى، فإن القول بأن عوامل بعينها تشكل الهوية الإماراتية دون غيرها من العوامل فضلا عن كونه قصور في التعريف فإنه يحمل طابع الإقصاء لفئة كبيرة من المجتمع، بل، ربما الفئة الساحقة، والتي قد تختلف مع دكتورنا العزيز في طرحه.
وقد يكون التعريف البسيط لمن هو الإماراتي بأنه هو من يحمل جواز دولة الإمارات العربية المتحدة ويكتسب جنسيتها. وهذا التعريف وإن كان سليما من الناحية الفنية إلا أنه غير دقيق. ومقال الدكتور عبد الخالق الأول وإن كان لا يتبنى هذا التعريف صراحة إلا أن طرحه في الحقيقة يكاد يثبت هذا التوجه. فطرح الدكتور يعني أن هذا التعريف يشمل كل من يحمل الجواز الإماراتي أيا كان توجهه وسلوكه حتى لو كان مخالفا لثوابت المجتمع الإماراتي وتوجهاته.
ويصعب أن نجد تعريفا جامعا مانعا للهوية الثقافية. ولكن يمكن القول بأن الهوية هي أشمل وأسمى من مجرد حمل الجواز الإماراتي. إذ هي مجموعة السمات والخصائص التي تنفرد بها الشخصية الإماراتية وتجعلها متميزة عن غيرها من الهويات الثقافية الأخرى. وتتمثل تلك الخصائص في اللغة والدين والتاريخ والتراث والعادات والتقليد والأعراف وغيرها من المكونات الثقافية. إذ هي تعبير عن الشعور الجَمعي الذي تشكل عبر مئات السنين ومختلف التجارب التي مرّ بها المجتمع. وهو ما أشار إليه جزئيا رجل الأعمال المعروف خلف الحبتور في الفيديو الذي نشره تعليقا على مقال الدكتور عبد الخالق.
والهوية بهذا التعريف ليست أمراً ثابتاً جامداً لا يقبل التغيير. بل هي متغيرة بتغير الظروف التي يمر بها المجتمع يتفاعل معها ويكتسب منها ويتشكل بها.
ولقد افترض الدكتور بأن التيار المحافظ على عادات المجتمع والذي يمثل سواد المجتمع الإماراتي إنما هو ضد الحداثة والمدنية وهذا بعيد كل البعد عن الصحة. فلقد واكب مجتمع الإمارات خلال خمس عقود الكثير من المتغيرات وتعايش معها وسيواكب بلا شك المزيد من المتغيرات ولكنه سيظل يلفظ القيم المستوردة من فكر لا علاقة له بمجتمع الإمارات وينافي الأسس التي يقوم عليها المجتمع والمنصوص عليها في الدستور. فالهوية هي نوع من أنواع قبول الآخر ولكن دون المساس بالذات، فكل جماعة بشرية تتصل مع الآخر وتعيد تأكيد ثقافتها من خلال التحولات والتغيرات السلوكية والقيمية الداخلية. ومن أكبر مظاهر أزمة الهوية الثقافية انبهار كثير من المثقفين بالنتاج التربوي للغرب وتطبيقه علي الواقع العربي رغم اختلاف البيئتين العربية والغربية، ومن ثم اختلاف متطلباتها. بل إن من مظاهر ضعف الهوية أن يؤدي الإعجاب بالعلم والتقدم عند الغير إلي الإعجاب بمن أبدعوه، فيسيرون وراءهم ويتبعون خصوصياتهم الثقافية دون تمييز.
فمهما تطور المجتمع الإماراتي إلا أن هناك أمرين ثابتين لا خلاف عليهما هما الدين الإسلامي واللغة العربية. فهما الثابتان الوحيدان في معادلة الهوية الإماراتية وغيرهما متغير. فالتحول الإيجابي مطلوب ومُرحبٌ به أما الانسِلاخ فلا.