أوحى رئيس الجمهورية ميشال عون، في بيان مكتبه الإعلامي “الناري” الأخير، بطيّ صفحة كلّ “التكهّنات” التي تحفل بها الأوساط السياسية، حول “مخططات” ما قبل انتهاء الولاية الرئاسية، على غرار البقاء في قصر بعبدا، في حال عدم تأليف حكومة “أصيلة”، أو سحب التكليف من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أو حتى الذهاب لتأليف حكومة جديدة، في تكرار لـ”سابقة” لا يستبشر الكثير من اللبنانيين خيرًا بها.
لكن، قبل أن يجفّ حبر البيان الرئاسي، فاجأ رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل الكثيرين بالمواقف التي أطلقها في مقابلة صحافية، أعاد فيها تسليط الضوء على هذه الخيارات بالتحديد، بما فيها بقاء الرئيس عون في قصر بعبدا، ولو أنّه أبدى “عدم رغبته الشخصية” بمثل هذا السيناريو، إلا أنّه قال إنّ هناك “من يطرحه”، جازمًا أنّ الرئيس لن يسلّم صلاحياته بأيّ حال من الأحوال لحكومة تصريف أعمال.
ومع أنّ مواقف باسيل فُسّرت في مكانٍ ما على أنّها “ضغط” لتشكيل الحكومة الجديدة اليوم قبل الغد، ولا سيما أنّه أكّد في المقابلة نفسها، أنّ “أيّ حكومة” اليوم تبقى أفضل من عدم التأليف بالمُطلَق، رسم كثيرون علامات استفهام حول “مغزى” مواقفه التي جاءت “متناقضة” مع ما صدر عن دوائر قصر بعبدا، التي ذهبت لحدّ توصيف من يروّجون للسيناريوهات “المبهمة” على أنّهم “أولاد حرام يقوّلون الرئيس ما لم يقله”.
إزاء ذلك، كيف يمكن أن يُفهَم هذا “التفاوت” بين بيان مكتب الإعلام في الرئاسة، ومواقف الوزير باسيل، معطوفة على الحملات المستمرّة التي يخوضها “الجيش الافتراضي” لـ”التيار الوطني الحر” على مواقع التواصل؟ وهل هناك من يتعمّد استمرار “الضبابية” قبيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وعشيّة بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، ولا سيما في ظلّ الحديث عن “سيناريوهات مفتوحة” على كل الاحتمالات؟.
ينفي المحسوبون على “التيار الوطني الحر” وجود أيّ “تناقض” بين بيان بعبدا ومواقف باسيل، باعتبار أنّ المشكلة الأساسية التي دفعت رئيس الجمهورية لرفع السقف لم تكن في الحديث عن الخيارات التي لا بدّ أن يتّخذها قبل انتهاء ولايته، بقدر ما كانت في “تطييف السجال”، ومنحه أبعادًا طائفيّة ومذهبية، وهو ما ينطوي وفق هؤلاء على “خبث” لا يمكن نكرانه، خصوصًا في مثل المرحلة الحسّاسة التي تمرّ بها البلاد.
ويشير هؤلاء إلى “توقيت” بيان بعبدا الذي صدر بعيد بيان المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى “الداعم” لرئيس الحكومة المكلف، والذي جاء بدوره أيضًا بعد بيان “مُستغرَب” لرئيس حكومة تصريف الأعمال، غمز من قناة “الاعتبارات الطائفية”، وهو ما تعمّد الرئيس الردّ عليه بشكل مباشر، باعتبار أنّ خصومه ومن يصوّبون عليه هم من يتلطّون بـ”الطائفية” عند كلّ استحقاق، ويرفعون شعار “الصلاحيات والحقوق”، من دون أن يمسّها أحد.
ويعتبر “العونيون” في هذا السياق، أنّ “المغزى” من بيان رئيس الجمهورية يكمن في هذا السياق تحديدًا، وهو ما كرّره أصلاً الوزير باسيل في مقابلته الصحافية، حيث كان تأكيد على أنّ أحدًا لا يريد أن “يمسّ” بالصلاحيات، بدليل أنّ رئيس الجمهورية لا يقول إنّه لا يريد أن يسلّم الحكومة الصلاحيات الرئاسية، ولكنه يرفض أن تذهب هذه الصلاحيات إلى حكومة مستقيلة ومحدودة الصلاحيات أصلاً، وهو وضع “شاذ”، حتى بالنسبة لمن يدافعون عنه.
استنادًا إلى ما تقدّم، يعتبر المحسوبون على “التيار الوطني الحر” أنّ ثمة “تكاملاً” بين موقفي بعبدا وميرنا الشالوحي، خلافًا لما يحاول البعض الترويج له، لأنّ الجانبين متفقان على الخطوط العريضة، وقوامها أنّ استلام حكومة تصريف الأعمال لصلاحيات الرئيس ليس أمرًا سليمًا، وبالتالي فعلى من يخشى على الصلاحيات، ويحاول تطييف الأمر، أن يسهّل الأمر على نفسه واللبنانيين، ويعمل على تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، وبلا أيّ تأخير.
أكثر من ذلك، يقول المقرّبون من “التيار” إنّ “الأجْدى” بهؤلاء أن يركّزوا على “الرسائل المرنة” التي مرّرها الوزير باسيل في مقابلته الأخيرة، بدل أن يصبّوا كل اهتمامهم على الخيارات، التي كان واضحًا أنّها “مشروطة” بوضع استثنائي لا يفترض أن يحصل، إلا إذا كانت النيّة المضمرة لديهم سلفًا، تقضي بعدم تشكيل حكومة من الأساس، رغم “الفوضى الدستورية” التي من شأن مثل هذا الأمر أن يقود إليها على أكثر من خط.
من جملة هذه الرسائل “المَرِنة”، كما يقول هؤلاء، قول باسيل إنّ أيّ حكومة أفضل من عدم تأليف، بل انفتاحه حتى على خيار “استنساخ” الحكومة الحالية، من خلال إعادة تعويمها، شرط أن تحصل على ثقة البرلمان لتستطيع أن تحكم، رغم أنّ رئيس “التيار” كان واضحًا بأنّه على المستوى الشخصي ليس من دعاة هذا الرأي، وكان يفضّل الذهاب إلى حكومة سياسية بعد الانتخابات النيابية، تحترم نتائجها وتراعي التمثيل الذي أفرزته.
من هنا، يعتبر “العونيّون” أنّ الكرة هي في ملعب رئيس الحكومة المكلف، الذي أضاع الكثير من الوقت، عبر مقاطعة بعبدا تارةً، أو رمي الكرة في ملعب الآخرين طورًا، من خلال تقديمه صيغًا وأفكارًا يدرك سلفًا أنّها لن تكون مقبولة، لأنه كان “يستقوي” بجمعه لقبي “رئيس الحكومة المصرِّف والمكلَّف”، قبل أن يكتشف أنّ “رهانه” لم يكن في مكانه، بدليل عمله على إعادة “إحياء” الحراك الحكومي في الأسبوعين الأخيرين.
لا شكّ أنّ “الضبابية” مستمرّة إذاً، بقرار ضمني من الجميع ربما، وإزالتها لا تتمّ إلا بإلغاء كلّ عوامل الخوف، وتفويت الفرصة على من يرغب في أخذ البلاد نحو منزلق لا تحمد عقباه، ومفتاح ذلك ليس سوى في تشكيل حكومة سريعًا، ولو من باب الاحتياط، من دون شروط أو شروط مضادة، وبتنازلات متبادلة، لأن أحدًا لا يملك “ترف” الوقت، وكل مناورة تحصل اليوم من شأنها أن تزيد من تفاقم الأمور وتعقيدها!.