بقلم: رامين سكيبّا
يَعرِف العلماءُ كيف سوف ينتهي العالَم.. حيث سوف ينفد مخزون الشمس من الوقود، لتدخل في مرحلة ما يُسمَّى بالنجم الأحمر العملاق، الذي سوف ينفجر انفجارًا أخيرًا هائلًا، يبتلع الكواكب الأقرب إليه، تاركًا الأرض صخرةً متفحِّمةً عاريةً من الحياة. ويعرفون أنَّ المتبقي من عُمْر كوكبنا يبلغ خمسة مليارات سنة على وجه التقريب.
بهذه الصورة القاتمة، تفتتح عالمة الفيزياء الفلكية النظرية، كيتي ماك، كتابها الذي يتناول مسألة نهاية الكون، وهي مسألة أكثر غموضًا والتباسًا من نهاية العالَم. إنَّ علماء الكون ينظرون عادةً إلى الوراء؛ إذ إنَّ جميع الأدلة التي يمكنهم رصْدها عن طريق التلسكوبات تقع على مسافاتٍ موغِلةٍ في البُعْد، وتتعلق بوقائع حدثَتْ منذ أزمانٍ سحيقة. أما الاعتماد على حركة النجوم والمجرَّات في التنبؤ بالسيناريوهات المحتملة لمستقبل الكون، فإنه ينطوي على قَدْر لا بأس به من التخمين.
في الكتاب الذي بين أيدينا، يتحوَّل هذا التخمين إلى قصة شائقة؛ إذ ترى المؤلِّفة أنَّنا -نحن البشر- “نوازن بين الوعي بضآلتنا المتناهية، والقدرة على تجاوُز واقعنا المَعِيش، والخروج إلى الفضاء بحثًا عن حلول للألغاز الكونية الأساسية”. والحقُّ أن المؤلفة تتمتَّع بمَلَكَةٍ خاصة في شرح الموضوعات الفيزيائية المعقدة، كما يكشف الكتاب عما لديها من شغفٍ بعلم الفلك، وحُب الاطلاع على موضوعاته، إلى حدٍّ جعل منها متحدثة ذائعة الصيت في هذا المجال، تحظى بشهرة واسعة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”. (كما يتضمَّن الكتاب بعضًا من النوادر والطرائف العلمية، وخاتمةً تتعرَّض فيها للأبحاث الفيزيائية الجديدة ذات الصلة بموضوع الكتاب، وإنْ كانت أقلَّ جاذبية).
تأخذنا ماك في رحلة تبدأ من لحظة البداية: لحظة “الانفجار العظيم” Big Bang، وما تلاهُ من حدوث ما يُعرف بالتضخم الكوني، الذي يُشار به إلى فترة التمدد السريع التي أعقبَتْ الانفجار، ثم تكوَّنت بِنًى من المادة المظلمة، وتجمَّعت الوحدات البنائية للمجرَّات والنجوم والكواكب، ومن ثمَّ الحياة. وفي الوقت الحاضر، تعمل الطاقة المظلمة -التي يُعتقد أنها تتخلل الكون بأكمله- على إبطال مفعول قوى الجاذبية بعض الشيء، فتؤدي بذلك إلى الاستمرار في عملية التمدُّد الكوني.
ويتوقف مصير الكون على هذا التمدد، وما إذا كان سيستمر بالوتيرة الحاليَّة، أم أنه سوف يتسارع، أو يتباطأ. ولطالما اعتقد علماء الفيزياء الفلكية أنَّ نهاية الكون سوف تكون -على الأرجح- صورةً معكوسة للانفجار العظيم، فيما يُطْلِقون عليه “الانسحاق العظيم” Big Crunch. ومن المُلاحَظ أنَّ جميع المجرات التي تقع خارج منطقتنا الكونية تتحرَّك مبتعدةً عنَّا، وهي علامة واضحة على حدوث التمدُّد آنف الذِّكر. فإذا كان الكون يحتوي على قدر كافٍ من الطاقة، بما في ذلك الطاقة المظلمة، فسوف يؤدي التأثير الإجمالي لقوى الجاذبية الكونية -حسب هذا السيناريو- إلى إيقاف هذا التمدُّد بالتدريج، والتعجيل بالانهيار النهائي. فبمرور الوقت، سوف تتسارع وتيرة اصطدام المجرات ببعضها البعض، ومن ثمَّ تتصادم النجوم التي تشتمل عليها، مما يؤدي إلى القضاء على أية حياة توجد على الكواكب القريبة. وفي اللحظات الأخيرة، حين يتحوَّل الكون إلى جحيمٍ آخذٍ في الانكماش، ترتفع به درجات الحرارة والكثافة ارتفاعًا هائلًا، سوف يتلاشى كلُّ ما تبقَّى، وينهارُ في نقطةٍ واحدة.
غير أنَّ الطاقة المظلمة قد تأخذ الكون إلى مصير مختلف. لقد تمكَّن العلماء من تحديد السنوات الأولى من تطور الكون، اعتمادًا على مقدار ما كان يحتوي عليه من مادة. وعلى مدى مليارات السنين، أخذَتْ الطاقة المظلمة تسيطر على الكون، دافعةً إيَّاه إلى التمدُّد خارجًا. والبيانات الحالية، الصادرة من “تلسكوب بلانك” Planck Telescope -التابع لوكالة الفضاء الأوروبية- وغيره من المصادر تشهد على أنَّ هذا التمدد سوف يستمرُّ إلى الأبد.
يُطلَق على هذا السيناريو لنهاية الكون “الموت الحراري”، أو “التجمُّد الكبير” Big Freeze، الذي تقول ماك في وصفه إنه سوف يكون “بطيئًا ومفجِعًا”. وتمضي في الشرح، مستعينةً بمفاهيم الديناميكا الحرارية، قائلةً إن الكون سوف يقترب من حالةٍ يصل فيها إلى درجة الحرارة الدنيا، ودرجة القصور الحراري -أو “الإنتروبيا” entropy- القصوى. ومع استمرار الأجسام في التباعد عن بعضها البعض شيئًا فشيئًا، واتساع ما بينها من مسافات، سوف تتناثر مادة النجوم الميتة، بما لا يسمح بتكوُّن نجوم جديدة، وسوف تتوقف المجرات التي تنتمي إليها هذه النجوم عن النمو تدريجيًّا. فالأمر أشبه ما يكون بحدوث اختناق للنشاط الفيزيائي الفلكي بأكمله؛ إذ يصبح الوقود المستخدَم في النمو والتكاثر مُبعثرًا إلى حدٍّ تنتفي معه صلاحيته للاستخدام. إنها نهاية “تتسم بانعزالٍ متزايد، واضمحلالٍ محتوم، وغرقٍ بطيءٍ في ظلامٍ دامس”.
أمَّا السيناريو الثالث من سيناريوهات موت الكون، التي تطرحها ماك في كتابها، فهو سيناريو “التمزق الكبير” Big Rip. سوف يقع هذا السيناريو، إذا ما أدَّت الطاقة المظلمة إلى حدوث التمدُّد الكوني بوتيرةٍ أسرع مما هو متوقَّع الآن. فعندما يبلغ الكون هذا الحدَّ من التضخُّم، لن تتمكن قوى الجاذبية في نهاية المطاف من الحفاظ على ترابط النجوم داخل المجرات. ومن ثم، فسوف تتفرَّق النجوم بعيدًا عن بعضها بعضًا، ولن تمتلك الأنظمة الشمسية -ومنها مجموعتنا الشمسية- القوة الكافية للإبقاء على النظام مترابطًا. وهكذا، فسوف تنفجر النجوم والكواكب المتبقية. وفي النهاية، سوف تنفصم الروابط فيما بين الذرات الأخيرة، وتنفصل مبتعدةً عن بعضها البعض.
تشير أحدث القياسات إلى أنَّ سيناريو “الموت الحراري” هو الأقرب إلى التحقُّق؛ وإنْ لم تستبعد هذه القياسات احتمالَي “الانسحاق العظيم”، و”التمزق الكبير” كذلك.
أما السيناريو الأخير من سيناريوهات الفناء الكوني، التي تَعرِض لها ماك في كتابها، فهو مستبعَدٌ تمامًا، ويُعرف بسيناريو “الاضمحلال الفراغي” Vacuum Decay. فمن الممكن أن تتكون فقاعة من “الفراغ الحقيقي”، بسبب عدم استقرارها في مجال “بوزون هيجز”. وهذا ما قد يحدث عند تبخُّر ثقب أسود، مثلًا، على نحوٍ خاطئ. وإذا ما تكوَّنت فقاعة كهذه، فسوف تتمدد بسرعة الضوء، مدمِّرةً كل ما يقع في طريقها، إلى أن تمحو الكون محوًا. ولربما تكوَّنت فقاعة “الاضمحلال الفراغي” في مكان بعيدٍ من الكون بالفعل؛ إذ لن يكون في مقدورنا رصْدها وهي قادمة في اتجاهنا، ولكنْ لا داعي للقلق؛ فأيًّا ما كانت طريقة فناء الكون، تُخبرنا ماك أنَّ لحظة النهاية لن تحين -في أغلب الظن- قبل مرور مائتي مليار عام على الأقل.