تُوصَف الاحتجاجات الحاصلة في إيران اليوم على أنّها تحرّكٌ نسويّ. ومن دون شكّ للاحتجاجات خلفيّة نسويّة أساسية، كما أنّها جاءت استكمالاً لاحتجاجات أخرى بدأت بها النساء في إيران منذ أشهر عدّة. ولكن، أكثر من ذلك تأخذ هذه الاحتجاجات النسوية بعداً سياسيًا في المنطقة. فالاحتجاجات اليوم لا تعترض على قمع النساء فقط، بل على نظام كامل بتكوينه الحالي. نظام لم يقمع شعبه وحسب بل دعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. لذلك كلّه، تقود النساء الإيرانيات هذه الاحتجاجات الاعتراضية ليس دفاعاً عن مصالحهنّ وحسب، بل هو بالنسبة لنا دفاع عن مصالح وحرّية كل شعوب المنطقة.
“اندلعت الاحتجاجات في إيران”، انتشر الخبر. يبدو أنّها شعلة لانتفاضة تقودها النساء في وجه الوصاية على أجسادهنّ وحرّيتهنّ.
استقبلت شعوب المنطقة صور وفيديوهات التقطها الإيرانيون أثناء الاحتجاجات. لقطات لنساء تخلعن حجابهنّ وتقصّن شعرهنّ، من دون أي خوف من الطاغية ونظامه.
هذه اللقطات عرّفتنا على شعبٍ غيّبه عنّا جلادٌ واحد. شعب يشبه كل شعوب المنطقة، يتوق للحرّية ويحاول التحرّر من سطوة نظامه الاستبدادي. إيرانيات وإيرانيون انتفضوا، فجاءهم عساكر المرشد وحرسه يقمعون ثورتهم، تماماً كما حصل مع كل شعوب المنطقة.
“ما في للأبد، حانن للحرية حانن”، هتف السوريون في عام 2011، فكانت لهم بالمرصاد جحافل جيوش محور الممانعة، تشرّدهم وتعلن “الأسد أو نخرب البلد”. “علمانية علمانية” هتف العراقيون قبل سنوات، فجاءتهم ميليشيات النظام الإيراني وانشغلت بسحلهم واحتلالهم. “كلن يعني كلن” هتف اللبنانيون، فقُمِعوا وخوّنهم حزب الله وأتّهمهم بأنّهم أتباع سفارات. واليوم يهتف الشعب الإيراني “الموت للديكتاتور، الموت لخامنئي”، فجاءهم الديكتاتور ليدوس بثقل عساكره على صدورهم.
هكذا، من ثورة إلى ثورة، تدوس أنظمة المنطقة على الشعوب وحلمها بالحرّية.
يتّهم نظام الملالي وأتباعه اليوم الأكراد بأنّهم افتعلوا هذه الاحتجاجات بتحريضٍ أميركيّ، متناسين أن الاحتجاجات جاءت نتيجة لعقودٍ من الاستبداد وقمع الحرّيات والتضييق على النساء، وإثر مقتل الشابة مهسا أميني على يدّ “شرطة الأخلاق”.
فكما كل ثورة وكل انتفاضة وإحتجاج، تتّجه الأنظمة الحاكمة وقوى الممانعة إلى تخوين الشعوب واختزال توقهم للحرّية بنظريات المؤامرة.
فهذه الأنظمة بلغت حدّاً عالياً من النرجسية والفوقية، حتّى أصبح كلّ من يعارضها يُواجه بخطابات الشيطنة والتخوين وتُهم العمالة. وهي مستعدّة لتدوس على كل شيء من أجل مشروعها و”فكرتها العظمى”، فالمشروع هو الأولويّة، حتى لو على حساب شعوب المنطقة، كل شعوب المنطقة وحياتها وحرّيتها.
من المؤكَّد أن النظام في إيران سيتمكّن من قمع واحتواء الإحتجاجات، فهو من قاد الثورات المضادة في المنطقة، ووقف في وجه حرّية الشعوب، ودعم الأنظمة الاستبدادية. لذلك ينتظر بعضنا ربيع طهران المبشّر بالحرّية والديمقراطية إذ يسحب ظلامات الملالي من منطقتنا.
ولكن هذا لا ينفي الحقيقة، وهي أن شعوب المنطقة تشبه بعضها البعض بثوراتها، وإننا في دمشق وبيروت وبغداد لسنا منحازين اليوم للشعب الإيراني وانتفاضته لأنّنا نريد إسقاط نظام الأسد في سوريا أو حزب الله في لبنان أو الحرس الثوري في العراق فقط، بل لأننا منحازون للشعوب، كل الشعوب وحرّيتها وحقّها في أن تعيش بكرامة وأن تقرّر مصيرها.
في طهران انتفاضة في وجّه طاغية تصيبه خصلات شعر النساء بالذعر، انتفاضة أفرحت شعوب منطقتنا. ولا يهمّ كيف ستكون نتيجة هذه الانتفاضة، وما ستنتهي عليه. يكفينا لحظة واحدة من الحلم والقوّة بعد سنواتٍ من القمع والاستبداد والخيبات، لحظة واحدة تختزلها إمرأة إيرانية تخلع حجابها وترفع قبضتها في وجه عسكر الديكتاتور، كأنها قبضة في وجه براميل ومجازر ومعتقلات الأسد في سوريا، كأنّها قبضة في وجه حزب الله وميليشيا الإغتيال في لبنان. لحظة واحدة تختزلها إمرأة ترقص وسط الجموع، كأنّها رقصة لشعوب المنطقة في وجه الطغيان.
لحظة واحدة تذكّرنا بأنّ لنا حلماً عجزنا عن تحقيقه، فمتى تصدح أصوات شعوب منطقتنا من جديد لتعلن بأننا ما زلنا متمسّكين بالحلم نفسه؟