إذا تأمّن نصاب الجسلة التشريعيّة يوم غد، من المفترض أن يكون “نجم” جدول أعمالها مشروع القانون الرامي إلى وضع ضوابط استثنائيّة على التحاويل المصرفيّة والسحوبات النقديّة، أي “الكابيتال كونترول” كما بات يُعرف. ونجوميّة هذا البند وشهرته لم تعد تنطلق من تكرّر السجالات حوله منذ العام 2020، بل من حديّة المواقف المتعارضة، المحذّرة منه أو المؤيّدة له والمصرّة على تمريره، أو تلك التي تؤيّده من حيث المبدأ لكنّها ترفض المسودّة المطروحة حاليًا.
لمصلحة من مشروع القانون؟
في نسخة مشروع القانون المُعدّة غدًا، والتي نتجت عن نقاشات اللجان المشتركة، ثمّة مفارقات فاقعة. أوّل هذه المفارقات هي أنّ المسودّة المطروحة للتصويت غدًا هي تحديدًا تلك التي تحفّظ صندوق النقد الدولي عن مضمونها، بعدما تم تشويه المسودّة التي أحالتها الحكومة إلى المجلس النيابي.
وبذلك، بات مشروع القانون لا يملك أي قيمة مضافة، على مستوى تحقيق شروط صندوق النقد الدولي. وفي المقابل، وبما أنّ المجلس النيابي لم يصادق على القانون في بدايات الانهيار، وبعدما تم تهريب ما يمكن تهريبه من سيولة القطاع المصرفي لمصلحة المودعين المحظيين، لم يعد لهذا القانون أي قيمة مضافة على مستوى حماية المودعين.
السؤال الأساسي: ما غاية الاستعجال في تمرير مشروع القانون يوم غد، طالما أن مضمونه لا يلبي متطلّبات الصندوق ولا مصلحة المودعين؟ مع الإشارة إلى أنّ مضمون مشروع القانون لا يحقق أي فائدة على مستوى ضبط السيولة المتبقية في القطاع المالي، كما يفترض أن يكون الحال، ليتكامل ذلك مع مسار توحيد سعر الصرف، بل تقتصر مفاعيله على تمييز ودائع ما قبل 17 تشرين الأوّل عن الأموال الجديدة، أي “الفريش”.
وفي النتيجة، يتبيّن أن المصارف هي المستفيد الوحيد من المسودّة المطروحة، التي باتت بأمس الحاجة إلى غطاء تشريعي نهائي، يقونن كل عمليّة حبس الودائع التي تمارسها اليوم بحق المودعين.
مضمون مشروع القانون بعد التعديلات
حسب تعديلات اللجان المشتركة، من المفترض أن تتشكّل لجنة تضم وزير الماليّة وحاكم مصرف لبنان أو أحد نوّابه، بالإضافة إلى قاضٍ من الدرجة 18 وما فوق، مع أربع خبراء من اختصاصات مختلفة، على أن يتم تعيين هؤلاء بموجب مرسوم حكومي، وباقتراح من قبل رئيس مجلس الوزراء. وبعد إقرار القانون، من المفترض أن تقر الحكومة المراسيم التطبيقيّة لقانون الكابيتال كونترول، ومن بينها تلك التي تخص آليّة عمل هذه اللجنة.
وهكذا، ستمتلك اللجنة حق تحديد سقف السحوبات من الحسابات المصرفيّة القديمة، على أن لا يقل هذا السقف عن 800 دولار أميركي. إلا أنّ القانون لم يحدد عملة هذه السحوبات، كما يفتح المجال أمام حصر استخدام جزء منها بالبطاقات المصرفيّة، فيما لا يوجد أي آليّة واضحة لتحديد سعر الصرف المعتمد للسحوبات بالليرة اللبنانيّة من الودائع المدولرة. وبهذا الشكل، لا يقدّم القانون أي ضمانة بالنسبة لحقوق المودعين بالسحوبات النقديّة.
بل وعلى العكس تمامًا، يشير القانون في مكانٍ آخر إلى حصر المدفوعات المحليّة كافّة بالليرة اللبنانيّة، باستثناء الحالات التي تحددها اللجنة، ما يطبّع فكرة السحب من الودائع المدولرة بالليرة، ومن دون أي معيار لتحديد سعر الصرف المعتمد لذلك. وهذا تحديدًا ما يعيد المودع إلى وضعيّته الراهنة، أي إعطائه خيار السحب من الودائع بالليرة، كما ينص التعميم 151، عبر أسعار صرف متدنية مقارنة بسعر السوق الفعلي. أمّا السحوبات النقديّة بالدولار، كما ينص التعميم 158، فسيكون من الممكن إلغاؤها كليًا واستبدالها بسحوبات بالليرة فقط، إذا ارتأت “اللجنة” ذلك.
وفي جميع الحالات، سيبقى تطبيق القانون بأسره رهن إصدار المراسيم التطبيقيّة وتشكيل اللجنة. فالغالبيّة الساحقة من بنود القانون لا يمكن أن تدخل حيّز التنفيذ ما لم تقم اللجنة بممارسة صلاحيّتها، ومنها مثلًا: تحديد سقف السحوبات، تحديد القيود المفروضة على التحاويل والشيكات بالعملات الأجنبيّة وبالعملة المحليّة، تحديد الحالات التي يمكن عندها القيام بتحويلات محليّة بالعملة الأجنبيّة، بالإضافة إلى تحديد غرامات المصارف المخالفة.
مخالفة دستوريّة
كما أشرنا سابقًا، لطالما شدّدت جمعيّة المصارف على أهميّة مشروع القانون بالنسبة لها، من أجل الحصول على غطاء تشريعي لامتناعها عن سداد الودائع. وهذا تحديدًا ما تؤمّنه المادّة العاشرة من القانون، التي تنص على تعليق تنفيذ جميع الأحكام والقرارات القضائيّة القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج، والتي صدرت قبل صدور قانون الكابيتال كونترول ولم يتم تنفيذها بعد. وبهذا الشكل، يكون القانون قد تفادى إعطاء أحكامه مفعول رجعي، ليطال المخالفات التي جرت قبل إقراره، لكنّه في الوقت نفسه يتدخّل لمنع تنفيذ الأحكام القضائيّة بخصوص هذه المخالفات.
وكانت “المدن” قد أشارت سابقًا إلى أنّ هذا النوع من المواد ينطوي على مخالفات دستوريّة فاقعة، ما سيفتح الباب أمام الطعن بالقانون أمام المجلس الدستوري لاحقًا. فالمجلس الدستوري كان قد ثبّت في قرار سابق له مبدأ عدم جواز تدخّل القوانين لرفع يد القضاء عن قضيّة عالقة أمامه، بموجب قانون أو عمل إداري، عملًا بمبدأ استقلاليّة القضاء والفصل بين السلطات (راجع المدن). وعلى هذا الأساس، لا يجوز للمشرّع اليوم تمرير الكابيتال كونترول ببنود تنص على إبطال قرارات قضائيّة صادرة أو قيد المراجعة لدى المحاكم، كما يرد في المادّة العاشرة من القانون.
الكابيتال كونترول المشوّه
من المعلوم أن الكابيتال كونترول يمثّل أحد شروط التفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي، كما يدرك الجميع أن القانون يمثّل أحد الأدوات التي لا يمكن من دونها الشروع بمسار التعافي المالي.
لكنّ وبخلاف ما يطرحه مشروع القانون الموجود اليوم، والتي سيجري التصويت عليه غدًا، لا يفترض أن يقتصر دور الكابيتال كونترول على تشريع حبس الودائع القديمة، أو التمييز بين الودائع القديمة والجديدة. بل وعلى العكس تمامًا: من المفترض أن يكون القانون أداة الدولة ومصرف لبنان للتحكم بكل السيولة الموجودة في النظام المالي، بهدف التمهيد لمسار تعويم وتوحيد سعر الصرف، ومن ثم رفع القيود المفروضة على السيولة بشكل متدرّج. وهذا تحديدًا ما تم فعله في جميع الدول التي شهدت أزمات نقديّة وماليّة خانقة.
في المقابل، وعبر تفريغ القانون من مضمونه، وحصره بمسألة حبس ودائع ما قبل 17 تشرين الأوّل، يقوم المجلس النيابي بإسداء خدمة لا تُثمّن للمصارف، التي تنتظر بفارغ الصبر هذا القانون، لتطبيع حالتها الراهنة وقوننة تعثّرها، بدل الدخول في مسار التعافي الذي يُفضي إلى إعادة رسملتها. وبهذا الشكل، تتكامل المسودّة المطروحة غدًا مع كل جوانب خطّة الظل التي يتم اعتمادها منذ حصول الانهيار، والقاضية بتطبيق إجراءات متفرّقة ترمي كلفة الانهيار على المجتمع بأسره، بما فيه المودعين، في مقابل تحييد أصحاب النفوذ المالي والسياسي عن هذه الكلفة.