صحيفة المرصد: تحدث الكاتب خالد العضاض، عن الصحوية الفكرية، مشبهاً الصحوي اليوم بمصاب الملاريا الذي يرى الموت كل لحظة ولا يموت.
الصحوة المتصدعة
وقال العضاض، في مقاله ” حمى الصحوة المتصدعة: مرافعة ضد الصحوية الفكرية”، المنشور بصحيفة “الوطن”:”صحوي اليوم أشبه بمصاب الملاريا، يرى الموت كل لحظة ولا يموت، ويتخبط كثيرًا في تصرفاته وردود أفعاله كما يتخبط مصاب الملاريا من جراء اعتلال الذهن واعتلال الرؤية؛ وهذا لمحاصرته وتضييق الخناق عليه في المساحات التي كان يركض فيها وحده بلا أي مزاحمة”، موضحا:”الترفيه، والفنون، والانفتاح على العالم بالاستثمار والسياحة، والرأي الفقهي المعتدل والمتسامح، الذي يمحو قبح التطرف بهدوء وروية، كلها أفراس رهان في محاصرة ذيول الصحوة وآخر مظاهرها”.
الصحوية الفكرية
وأشار:”الصحوة أيديولوجيا سيادينية سائلة، تعمل في الحقل الديني والاجتماعي والثقافي لتؤثر في السياسة، وتحاول عبر هذه الأيديولوجيا إحكام السيطرة على أفراد المجتمع واستغلالهم لأغراض شتى، منها: فرز الكوادر المناسبة للتنظيمات، وتكثير سواد التابعين، وصبغ المجتمع بسمات مظهرية وشكلية واحدة، لتحقيق وهم السيطرة والنفوذ في ذلك المجتمع”، لافتا::الحديث حول الصحوة وأضرارها ومشكلاتها في غالبه، ما زال يدور حول تطرف الرأي الفقهي، والانتماء إلى أجندات خارجية، أو أطماع سياسية، مستبعدين الورطات الحضارية الكبرى التي أوقعتنا فيها الصحوة، ناهيك عن ترك الحديث المعمق حول الآثار النفسية المدمرة التي تعيق الكثير من الأفراد السعوديين عن مواكبة جهود الدولة التطويرية للبلد والمجتمع، وذلك بسبب الصحوية الفكرية التي ما زالت قائمة على قدم وساق متينة”.
الأكاذيب والتناقضات
وأكمل:”الصحوية كمنتج نهائي مستنسخة من تجارب دينية حركية عابرة للحدود، استقرت في قاع الفعل والقول الديني السعودي بشقيه الرسمي والشعبي، وأحدثت تأثيرًا عميقًا في وعي المجتمع، بتغلغلها في قنوات التأثير المهمة كالتعليم، والإعلام، والدعوة، بل تمكنت من اختراق العادات والتقاليد، مما جعلها تصوغ وعي الأفراد تجاه الأفكار والأحداث والأشخاص، الأمر الذي أدى إلى خلق وعي جمعي اصطبغ بروح الصحوة وفكرها، ومهما تلوَّن هذا الوعي واختلف، فإن روح الصحوية تظهر ملامحها في جنباته بشكل أو بآخر، لسبب بسيط هو أن المنبع الذي تصدر منه الصحوية، وغيرها من التشكلات الدينية الأخرى – والتي تبدو مخالفة لها – واحد وهو الرأي البشري القاصر الذي حلل وعقَّد ونظر للنص القرآني أو النص النبوي، ثم انطلق منه وفق آليات الأحادية، واحتكار الحق، وإقصاء المخالف، فالثقافة الصحوية الطاغية في المجتمع، قائمة أساسًا على قواعد صلبة وضعها مجموعة من الفقهاء والمفكرين الإسلامويين، وتلك الثقافة حملت طبيعتهم وأنماط سلوكهم، التي تغذت بالأكاذيب والتناقضات، مما تسبب في نشوء مشهد عام بلا معالم محدَّدة، يتبارى فيه كم هائل من العملاء والمرتزقة والمخادعين والدجالين والمدلسين والمختلين عقليًا وسلوكيًا للتأثير في الشأن العام، والأمر لا يتعلق هنا بنزوة عابرة أو فورة غاضبة، ولكن بمنظومة ثقافية ممنهجة، تأصَّلت في نفوسهم وترسَّخت في وجدانهم، وكما يقول نيتشه: «المنحطون في حاجة إلى الكذب؛ إنه إحدى شروط بقائهم».
الأبواب الخلفية
وزاد:”بعد الجهد الموفق للدولة في تجفيف منابع الإرهاب ومحاصرة التطرف، يلاحظ أن الصحوة عادت من الأبواب الخلفية، عبر أصوات متأنقة الشكل، ناعمة الذقون، محروقة الشفاه، تحتسي قهوتها الصباحية على أغنيات وموسيقى (Vintage Café)، أو على صوت فيروز، ومحمد عبده، برفقة روايات وأشعار فرناندو بيسوا، وأمين معلوف، وربما هنري ميللر، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الصحوية الفكرية المؤدلجة السائلة التي لا تلتزم بمظهر محدد، وهي أخطر أنواع الفكر وأشده تدميًرا، لأنه يبطش بعقل الإنسان ووعيه وضميره، فيحوِّله إلى مسخ مقطوع الصلة بالوطن والتاريخ والذاكرة، وهي في الوقت ذاته تدمير ممنهج للفطرة الإنسانية، لتنتج في النهاية الكراهية والعنف والإقصاء ضد الثقافات الأخرى أو الآراء المغايرة”، مشيرا:”الصحوية الفكرية التي تعتمد على الدين كأيديولوجيا، بهدف تسييس المجتمعات، تعمي بصيرة أتباعها ولا تمكنهم من مساندة التطور والتقدم، وفقًا لحجج مُقوْلبة مثل: غربة الإسلام، أو البعد عن الإسلام، أو عدم فهم الإسلام، أو المؤامرة على الإسلام، الأمر الذي يساهم في انحطاط العقل المسلم، ويمكن من صناعة تدين موازٍ وثقافة مختلفة عن الإسلام القرآني والنبوي”.
مخاوف البشر
وأردف:”الصحوية الفكرية قائمة على تغذية مخاوف البشر وتعميقها، ووضع الخلاص الذي يرفع عنهم عذاباتهم وبلاءاتهم في طريقتها ومنهجها، ومن هنا تأخذ الصحوية بالنمو وترسيخ وجودها وديمومتها، وتعمل البنى الاجتماعية المختلفة (كالقبائلية والمناطقية) على حراستها ورعايتها وفرضها، مما يعطيها المزيد من عوامل البقاء والاستمرار، وضم المزيد من المؤمنين بالصحوية”، مبينا:”وقد سعت الصحوية الفكرية إلى محاولة ضبط الهرم الاجتماعي بآليات قمع ثقافية، وقاموا بمحاولة إعادة إنتاجه، فتحول كل فردٍ من المجتمع يتماس مع هذه الصحوية إلى الولاء المطلق للفكر، ولو خالفه مظهريًا، وبالتالي فإن كلَّ خطوةٍ إلى الأمام يقدم عليها تعد مفارقةً للجماعة وابتعادًا عن الصراط المستقيم، مما أصاب عقلية المجتمع بالشلل، فلم تعد قادرةً على التحرك نحو أي جديد”.
الفضاء المفتوح
وتابع:”تحاول الصحوية الفكرية اليوم تقديم إسلام شعبي بسيط قائم على تنازلات كثيرة ومتعددة من أجل الحفاظ والإبقاء على أكبر كم من الأتباع، وعلى الرغم من مقاومتها الشرسة لتحرك الدولة والمجتمع المتعافي منها نحو الفضاء المفتوح، إلا إنها تخسر باستمرار المواجهة، الأمر الذي أدى بها إلى الانكماش والانغلاق، مما أحدث المزيد من التصدع في جنبات الصحوية الفكرية”.
رجالات الدولة
وختم:”الصحوية الفكرية، لا تتوسع وتنتشر إلا بأمرين: الأول: البحث الدائم عن عدو لمناصبته العداء، ولذلك نجد محاولات الاغتيال المعنوية مستمرة لم تتوقف، خصوصًا ضد رجالات الدولة، والمفكرين، والوطنيين.. الثاني: الكذب وهو أحد أهم قواعد الصحوية الفكرية، وكذبهم عبارة عن تزييف متعمَّد للحقائق، وخلق روايات وأحداث لم تقع”.
المحرمات الثقافية
وأتم:”من هنا يجب تسليط الضوء على المحرمات الثقافية من خلال العقل الناقد للوصول إلى بؤرة الوهم الذي يعشّش في العقل الجمعي، وكل من له صلة بدراسة التاريخ الإسلامي فكريًا، وتاريخ الأحداث السياسية في العالم العربي من بعد العهد النبوي يعلم أن هناك الكثير مما هو مسكوت عنه، أو موشوش عليه بأحكام التكفير والتفسيق والتبديع، وعندما يفصح عنها أحد الباحثين، يبادر الصحويون إلى دحضها والقول بأنها من الشبهات، واجبة التفنيد والدحض، وهذه العملية أخذت بمرور الزمن وضعًا علميًا وأكاديميًا”، مردفا:”أخيرًا، القضاء على التخلف مغامرة، ولابد من الجرأة في إعمال العقل كما يقول كانط”.