منذ أسابيع، بدا أنّ رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بدأ يثير، بالحدّ الأدنى، “نقزة” لدى حلفائه المفترضين، في ما وُصِفت بـ”الأكثرية الجديدة” التي انبثقت عن الانتخابات النيابية، وإن لم تترجَم عمليًا في أيّ من الاستحقاقات المتعاقبة، وذلك بسبب بعض المواقف “المتمايزة” التي أخذها، والرسائل “المشفّرة” التي وجّهها في أكثر من اتجاه.
ومع أنّ جنبلاط كان عمليًا من أوائل الداعين إلى ما سُمّيت “وحدة المعارضة”، حيث دعا إلى “أخذ العِبَر” من استحقاق انتخاب نائب رئيس المجلس، وبادر إلى تسمية السفير نواف سلام لرئاسة الحكومة، رغم علاقته “الجيدة” مع نجيب ميقاتي، إلا أنّه أيضًا أول “متجاوزي” هذه الوحدة، بحديثه عن إمكانية دعمه لرئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية رئاسيًا.
وإذا كان كثيرون يعتقدون أنّ أولى الرسائل الواضحة بشأن “التمايز الجنبلاطي” جاءت من بوابة قضية المطران موسى الحاج، حين “صدم” حليفه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع بموقف كاد فيه أن يزايد على “حزب الله” نفسه، فإنّ “المفاجأة الأكبر” بقيت في الرسائل “الودية” التي وجّهها إلى “الحزب”، ممهّدًا لـ”صفحة جديدة” أراد ربما فتحها معه.
وبالفعل، لم يمرّ وقت طويل، حتى استقبل “البيك” وفدًا قياديًا من “حزب الله” في دارته بكليمنصو، خرج من بعده ليعلن صراحةً وضع الملفات الخلافية جانبًا، توازيًا مع حديث الحاج حسين الخليل عن إمكانية تقديم “مرشح مشترك” للرئاسة، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام، التي يمكن أن تختصر العبارة الشهيرة لـ”البيك” نفسه، “إلى أين؟”.
في التحليل السياسي، يكثر الكلام عن “استدارة” قادها رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” في الأيام القليلة الماضية، استنادًا إلى القدرات المعروفة لراداراته في “التقاط” المتغيّرات الجيوسياسية، إن جاز التعبير، وهو الذي يُعرَف في الأوساط السياسية بكثرة “تقلّباته” وفق ما يقول البعض، حيث لا يتردّد في “تحوير” مواقفه بين ليلةٍ وضحاها، ليضمن تموضعه دائمًا مع الفريق “الرابح” بصورة أو بأخرى.
هكذا، تُقرَأ الكثير من “التحولات” التي صبغت دور جنبلاط على مرّ السنوات، ولم يجد معها “حَرَجًا” في الانتقال من ضفّة إلى أخرى، حيث كان ينتقل مثلاً من موالاة النظام السوري إلى معارضته بشكل مفاجئ، متحدّثًا عن “ساعة تخلٍّ” مرّ بها، والأمر نفسه يسري على “حزب الله”، ولكن أيضًا على تحالفاته الداخلية، حيث يُنسَب له فضل كبير مثلاً في “إنجاح” تجربة “14 آذار” أو ما عُرِفت بـ”ثورة الأرز”، ولكن أيضًا في إنهائها، حين ارتأى الانسحاب منها.
وعلى الطريقة نفسها، ثمّة من يضع “استدارة” جنبلاط المستجّدة في إطار قراءته للمتغيّرات في المنطقة، فحتى لو صحّ ما يُحكى عن “حوار مفتوح” مع “حزب الله”، لم يُقفَل في ذروة الخلاف بين الجانبين، فإنّ الواضح أنّ لقاء كليمنصو لم يعقد إلا لتوجيه رسالة “واضحة وحازمة” للقاصي والداني، خصوصًا أنّ “البيك” كان قبل أشهر قليلة، أو ربما أسابيع، يتحدّث عن “استحالة الحوار” مع الحزب، الذي “يحتكر” قرار الحرب والسلم، و”يخدم” الأجندات الأجنبية.
من هنا، يصعب الاقتناع بالنسبة إلى كثيرين، بأنّ جنبلاط تنبّه جدًا إلى أنّ الحزب “مكوّن أصيل” في الجسم اللبناني، وليس “دخيلاً” عليه، كما قال في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، مبرّرًا “تقاربه” الجديد، وهو ما يعزوه البعض، على العكس من ذلك، إلى مؤشرات التقطها جنبلاط في الإقليم، بدءًا من الاتفاق النووي الذي قد يكون إحياؤه أقرب من أيّ وقت مضى، بعد اختتام محادثات فيينا، وصولاً إلى “التسويات” التي بدأت “تنضج” في أكثر من مكان.
كلّ ذلك قد يكون دفع نحو فتح “صفحة جديدة”، إلا أنّها “صفحة” تبقى مضبوطة برأي كثيرين بالاختلافات في وجهات النظر، التي يؤكد “الاشتراكيون” أنّها باقية، باعتبار أنّ “هذا لبنان”، تمامًا كما قال مساعد الأمين العام لـ”حزب الله” في تصريحاته للصحافيين بعد اللقاء، وهو القول الذي “انسجم” معه جنبلاط بتأكيده أنّ النقاط الخلافية وُضِعت جانبًا، في إطار البحث عن الحدّ الأدنى من “المشتركات” أولاً، ليُبنى بعد ذلك على الشيء مقتضاه.
من هنا، يرفض المقرّبون من “الحزب التقدمي الاشتراكي” أيّ حديث عن “انعطافة” أو “استدارة” تكمن خلف اللقاء مع “حزب الله”، بل يستغربون أن يكون تلاقٍ من هذا النوع مثيرًا للهواجس أو التحفظات، أو حتى مسبّبًا لانزعاج بعض الأفرقاء، في حين يفترض أن يكون أيّ “تقاطع” بين فريقين محلّ ترحيب من الجميع بالمُطلَق، فكيف بالحريّ في ظروف حسّاسة كالتي يعيشها لبنان اليوم، والتي تتطلب الحدّ الأدنى من الوفاق في مقاربة الاستحقاقات الداهمة.
وفي حين ينظر بعض أطراف المعارضة بعين “الريبة” إلى التقارب المستجدّ بين جنبلاط و”حزب الله”، خصوصًا أنّه في حال ارتقى إلى مستوى “التفاهم” أو “التحالف”، من شأنه أن يطيح بكلّ “طموحات” توحيد المعارضة، وبالتالي أن يعيد الأكثرية إلى مكانها السابق، ثمّة من يعتبر أنّ خلف هذا التقارب رغبة غير مستترة من جانب جنبلاط بالعودة إلى “الدور الأحبّ” إلى قلبه، ألا وهو صفة “بيضة القبان” التي تعطيه حيثية أكبر، وتجعله لاعبًا أساسيًا.
ويرى المراقبون أنّ جنبلاط يطمح فعلاً للعب هذا الدور، وهو لذلك بدأ خطوات عملية لـ”التباعد” عن قوى المعارضة، وتحديدًا حزب “القوات اللبنانية”، وقد كان أكثر من واضح بـ”تمييز” نفسه عنه، رغم “الهدنة الإعلامية” المتفق عليها بعد السجال الأخير، وفي الوقت نفسه، بدأ خطوات لـ”التقارب” مع فريق “حزب الله” من باب “طمأنته” ربما، في سبيل الحصول على “ثقة” الجميع، والأهم من ذلك، حجز موقعه في أيّ “تسوية” على أبواب الانتخابات الرئاسية.
يقول البعض إن “استدارات” جنبلاط ليست بجديدة على الواقع السياسي اللبناني، باعتبار أنّ الرجل “امتهنها” منذ عقود، حتى فقدت عنصر “المفاجأة” فيها، ويقول البعض الآخر إن للرجل “هواجسه المشروعة” التي تحكم تحرّكاته وتموضعاته “المتغيّرة”. لكن، بين هذا وذاك، قد يكون المطلوب من الجميع “استدارة حقيقية” بحجم الوطن، ولمصلحة الشعب، بعيدًا عن المصالح “الأنانية” لحسابات الربح والخسارة لهذا الفريق أو ذاك!.