اتخذت فرنسا، قبل أيام، خطوة هي الأولى من نوعها على المستوى الدولي حيال ملف “مجزرة حي التضامن” في سوريا، والتي تم الكشف عنها قبل 4 أشهر، من خلال تحقيق نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، موثقةً بالتفاصيل جريمة حرب نفذها عنصر في مخابرات النظام السوري، قبل ثماني سنوات، بحق العشرات من المدنيين العزل.
وفي بيان نشرته وزارة الخارجية الفرنسية، يوم السبت، قالت إنها أحالت إلى “مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب”، وثائق تتعلق بـ”المجزرة”، للتحقيق فيها.
وأضافت أن هذه الوثائق تحمل صورا وتسجيلات مصوّرة للمجزرة التي ارتكبتها القوات الموالية للنظام السوري في حي التضامن بدمشق عام 2013، فيما تعد نتيجة “جهد طويل للعديد من الأشخاص المدافعين عن حقوق الإنسان”، وفق ما ذكره البيان.
وأشارت الخارجية إلى أن هذه الجريمة يمكن أن تكون من “أخطر الجرائم الدولية وجرائم الحرب”، وأن فرنسا “تواصل العمل من أجل ضمان عدم إفلات مرتكبي جرائم الحرب بحق الشعب السوري”.
“بلسان وصورة المنفّذ”
ورغم أن “مجزرة التضامن” ليست الأولى من نوعها في سوريا التي يرتكبها عناصر وضباط في قوات النظام السوري، إلا أن الآلية التي كُشفت فيها أثبتت ضلوع المؤسسة الأمنية التابعة للنظام السوري في قتل مدنيين عزل بأسلوب “الإعدام الميداني”.
ووثق تحقيق المجزرة الذي نشر، في شهر أبريل الماضي، وأعده الباحثان أنصار شحّود وأوغور أوميت أونجور، العاملان في “مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية” في جامعة أمستردام الجريمة بالفيديو وباسم مرتكبها وصورته، ليذهب بعيدا وعلى مدى سنوات ليلتقي فيه افتراضيا وجها لوجه، ويسحبا جزءا من تفاصيل ما فعله بلسانه وباعترافاته.
وحسب ما أورد التحقيق فإن المنفذ الرئيسي للمجزرة في التضامن هو العنصر في مخابرات النظام “أمجد يوسف”، والذي كان يشغل بعد عام 2011 منصب صف ضابط “محقق” في فرع المنطقة أو الفرع 227، وهو فرع تابع للأمن العسكري “شعبة المخابرات العسكرية”.
وكان تسجيلٌ مصور قد أظهر كيف كان “يوسف” يقتاد مع شخص آخر أناسا معصوبي العينين ومكبلي اليدين إلى شفا حفرة، ومن ثم يدفعهم إليها ويطلق النيران على رؤوسهم وأجسادهم.
“خطوة للأمام”
ويعتبر التحرك الفرنسي حيال ملف “المجزرة” الأول من نوعه على المستوى الدولي، فيما يصفه حقوقيون سوريون بأنه “خطوة للأمام”، من شأنها أن تفتح باب التحرك باتجاه “المحاسبة”، من خلال 3 خيارات.
وسرعان ما أصدر النظام السوري بيانا، يوم الاثنين، علّق بموجبه على ما أعلنته الخارجية الفرنسية، فيما كان البيان أول رد من جانبه على التحقيق الذي كشف “المجزرة” بتفاصيلها الدقيقة، في شهر أبريل.
وقال مصدر رسمي مسؤول في وزارة الخارجية والمغتربين بحكومة النظام السوري، إن المقطع المسرّب “مفبرك ومجهول المصدر، ويفتقد لأدنى درجات الصدقية”، في إشارة إلى التسجيل الذي أظهر الضابط “يوسف” وهو يقوم بإعدام المدنيين، ومن ثم دفعهم داخل “الحفرة”.
واعتبر المصدر، بحسب بيان نشرته الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا) أن تصرف فرنسا “لم يكن مستغربا، باستخدام المواد المكررة التي تعتبر من أكثر الأدوات تضليلا والتي استُخدمت في العدوان على سوريا”.
وأضاف “المصدر” أن الحكومة الفرنسية “تتحمّل مسؤولية سفك الدم السوري من خلال انخراطها في دعمها اللامحدود للإرهاب في سوريا، وعليه تستوجب المساءلة السياسية والقانونية”.
علي الجاسم، وهو باحث مختص في الجماعات شبه العسكرية، تحدث عن “خصوصية تتعلق بالتحرك الفرنسي بشأن ملف مجزرة التضامن”.
وترتبط هذه الخصوصية بأن “الأشخاص الذين عملوا على تهريب المواد الخاصة بالكشف عنها تم منحهم اللجوء في فرنسا، والحماية أيضا”.
ويقول الجاسم لموقع “الحرة”: “هذا مؤشر مهم جدا، ويشي بأنه يوجد ميول ورغبة فرنسية لبناء ملف ما”، لكنه يضيف مستدركا: “لست متفائل بشكل شخصي بوجود إنصاف للثورة أو للقضية السورية بشكل عام. قد يتم استغلال هذا الملف كورقة ضغط سياسي”.
وتعمل الدول الأوروبية أو المجتمع الدولي ككل على “مراكمة الملفات” بخصوص انتهاكات النظام السوري والجرائم التي نفذها، خلال السنوات الماضية، فيما تمتلك هذه الدول “أدلة دامغة” على تورطه، بالاعتماد على أدلة كثيرة.
وفي يوم 22 من شهر أغسطس الحالي سينشر تقرير، حسب الباحث في مجلة “نيو لاينز” في ذكرى الهجمات الكيماوية التي نفذها النظام السوري في سوريا، موضحا: “سيكون تقريرا إضافيا وقويا، وسيضم تشريحا للهيكلية والتراتبية في سلسلة الأوامر المتورطة في استخدام السلاح الكيماوي”.
وبخصوص ملف “التضامن” يشير الجاسم إلى أن “الفرنسين فقط من عرضوا على فريق العمل أنهم مستعدين لاتخاذ خطوة إلى الأمام، بتحويل ملف المجزرة إلى الادعاء العام”، مع العلم أن خطواتهم كان تسير سابقا بالشراكة مع الهولنديين والألمان.
والنقطة التي تميّز ملف “مجزرة التضامن” أن تحتوي “أدلة دامغة” على تورط المؤسسات الأمنية في النظام السوري، وليس على مستوى الأفراد فقط.
“هناك هيكلية واضحة على مستوى الأوامر. من الفرع 227 إلى شعبة الأمن العسكري، وصولا إلى مكتب الأمن القومي التابع للقصر الجمهوري. هذه التراتبية لا تضع أي مجال للشك”.
ويوضح الجاسم: “الخصوصية في ملف التضامن وحيثياتها هي إدانة المؤسسات وليس الأفراد. إذا تم تحريك القضية بهذا الاتجاه ستكون رابحة. أما إذا تم التحرك على مستوى الأفراد، لن تأتي بأي جديد”.
3 خيارات
وتتّبع الجهات الحقوقية في سوريا والأخرى التي تعمل على نطاق دولي آليات عدة لتوثيق الانتهاكات أو الكشف عنها، وإثبات الأطراف الضالعة بها.
وكان لـ”المصدر السري” أو كما يعرفه حقوقيون بـ”كنز المعلومات” دورا كبيرا في توثيق سلسلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها النظام السوري.
وذلك ما تقمصته أولا شخصية “قيصر” الضابط السوري المنشق الذي سرب آلاف الصور لجثث معتقلين في سجون نظام الأسد.
وبخصوص “مجزرة التضامن” فقد انعكس ذات المشهد على العنصر الذي صدم بتسجيل “مجزرة التضامن” على إحدى الحواسيب التابعة لفرع المخابرات العسكرية، ما دفعه لسحبه وتسريبه إلى أيدي نشطاء في أوروبا.
ويعتبر مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد أن “الموقف الفرنسي ضد أفراد النظام السوري في الوقت الحالي مهم جدا”، مستعرضا 3 خيارات للتحرك الذي قد تقدم عليها باريس.
أولى هذه الخيارات أن تتخذ فرنسا ذات الطريقة التي عملت عليها هولندا في وقت سابق.
وفي سبتمبر 2020 أعلنت هولندا أنها أبلغت النظام السوري نيتها محاسبَته على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لا سيما التعذيب، بموجب “اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب”.
وردّ النظام، حينها، بالقول إن لا حقّ لهولندا في التعاطي مع ملفات حقوق الإنسان لديها، وأن ذلك الإجراء “قفز فوق الأمم المتحدة والقانون الدولي”.
وهذه المذكرة الهولندية التي انضمت إليها كندا في 2021، وصفتها “هيومان رايتس ووتش” مؤخرا بأنها خطوة مهمة قد تفضي إلى مقاضاة النظام في “محكمة العدل الدولية”.
ويوضح الأحمد لموقع “الحرة”: “هولندا كانت مصدّقة على اتفاقية مناهضة التعذيب، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا. القانون الدولي يسمح أن تطلب إحدى الدول من الثانية بضرورة الالتزام بالاتفاقية والامتناع عن التعذيب، والتحرك على أساس ذلك”.
وعلى الرغم من أن ما سبق إحدى الخيارات المرجّحة، إلا أن الحقوقي السوري، يرى ذلك مستبعدا، وكذلك الأمر بالنسبة للخيار الثاني، الذي تنحصر حدوده ضمن ما يسمى بـ”الولاية القضائية خارج الحدود الفرنسية”.
وسبق وأن فتحت باريس قضية ضد جميل حسن وعلي مملوك، وهما مسؤولان أمنيان كبيران في النظام السوري، “القضية كانت ترتبط بشكل أساسي بوجود مواطنين سوريين فرنسيين قضوا في أقبية المخابرات السورية”.
ويتابع الأحمد: “هذه الخيار سيكون ضعيفا أيضا في الوقت الحالي، بسبب الاحتمالية الضعيفة لوجود فرنسيين سوريين كضحايا في مجزرة التضامن”.
“التحقيقات الهيكلية”
في غضون ذلك يرجح الحقوقي بسام الأحمد أن يكون التحرك الفرنسي بشأن “ملف مجزرة التضامن” ضمن الخطوات التي تعمل عليها الدول ضمن ما يسمى بـ”آلية التحقيقات الهيكلية”.
ويميل الحقوقي السوري إلى أن “الفرنسيين والألمان الذين يعملون على هذا النوع من التحقيقات سيتحركون حسب مبدأ الولاية القضائية العالمية، والتي تخولهم العمل بسبب وجود جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
ويقول الأحمد: “التحرك سيكون على هذا الأساس. وهو ممكن بسبب وجود ضحايا في أوروبا. ومنتهكين قد يتم العمل على جمع المعلومات الخاصة بهم”.
بدوره يؤكد الباحث علي الجاسم أن الخيار المتعلق باتباع الفرنسين للخطوة الهولندية سيكون مستبعدا، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة الألمانية، والمتمثلة بـ”الولاية القضائية العالمية”، والتي حوكم من خلالها الضابط أنور رسلان، كما فتحت قضايا أخرى، ضمن سياقها.
ويقول الجاسم: “هناك معضلة تتعلق بأن الولاية العالمية تتطلب وجود مرتكب الجريمة على أرض الدولة التي تريد محاكمته، ولو كان الجرم مرتكبا خارج حدود الدولة أو ضد شخص ليس من رعاياها”.
“هذه الجزئية ليست متوفرة بمجزرة التضامن. المرتكب للمجزرة غير موجود. على أي أساس ستطلب الحكومة الفرنسية إحضار أمجد يوسف؟ لا يمكن لأن هذا الأمر في عقلية المجتمع الدولي انتهاك للسيادة”.
ويبقى الخيار الوحيد وهو “التحرك الفرنسي ضد المؤسسة الأمنية التابعة للنظام السوري”، ووفق الجاسم: “إن لم يكن كذلك فلن يعدو كونه بيان”.
وعلاوة على ذلك، يرى الباحث السوري أن أهمية هذا النوع من التحرك، والذي يرافقه النشاط الخاص بالباحثين والأكاديميين والمشتغلين بالرأي العام له أثر أكبر بـ”منع التحرك أو النزعة أو الميول الغربية باتجاه فتح قنوات مع النظام السوري”.
“هكذا نوع من التحركات مهمة جدا، لأنها تمنع التعويم السياسي للنظام، وإعادة إلى الحظيرة الدولية”.
ويقول الجاسم: “ما يتم العمل عليها يصل إلى نتيجة أنه لا يمكن للنظام السوري أن يعود إلى ما قبل 2011، وهو الأمر الذي ينعكس بمواضيع اللجوء والتعاون والعودة الطوعية، وإعادة فتح السفارات والقنصليات”.
وهناك نتيجة أخرى هو “بناء رأي عام ضد النظام بأنه لا يمكن إعادة قبوله وتأهيله، وأن العدالة ورغم أنها تأخرت كثيرا، إلا أن الثابت الوحيد هو إبقاء المزاج العام كرافض لأي تطبيع”.